مناقعه (١) ، ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنيّ والآبار. وبالفلزّ الّذي ينتفع به في صوغ الحليّ ، واتّخاذ الأمتعة المختلفة ، ويدوم ذلك مدّة متطاولة. ومثّل الباطل في قلّة نفعه وسرعة زواله بزبدهما.
وبيّن ذلك بقوله : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) يجفأ به ، أي : يرمي به السيل أو الفلزّ المذاب. وانتصابه على الحال. (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) كالماء الصافي وخلاصة الفلزّ (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) ينتفع به أهلها (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) لإيضاح المشتبهات.
(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) للمؤمنين الّذين استجابوا (لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) أي : الاستجابة الحسنى (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) وهم الكفرة. واللام متعلّقة بـ «يضرب» ، على أنّه جعل ضرب المثل لشأن الفريقين ضرب المثل لهما.
قال قتادة : هذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد. شبّه نزول القرآن بالماء الّذي ينزل من السماء ، وشبّه القلوب بالأودية والأنهار. فمن استقصى في تدبّره وتفكّر في معانيه أخذ حظّا عظيما منه ، كالنهر الكبير الّذي يأخذ الماء الكثير.
ومن رضي بما أدّاه إلى التصديق بالحقّ على الجملة ، كان أقلّ حظّا منه ، كالنهر الصغير. فهذا مثل واحد.
ثمّ شبّه الخطرات ووساوس الشيطان بالزبد يعلو على الماء ، وذلك من خبث التربة لا عين الماء. وكذلك ما يقع في النفس من الشكوك فمن ذاتها لا من ذات الحقّ. فكما يذهب الزبد باطلا ويبقى صفوة الماء ، كذلك يذهب مخائل الشكّ هباء باطلا ويبقى الحقّ. فهذا مثل ثان.
والمثل الثالث قوله : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) إلى آخره. فالكفر مثل هذا الخبث الّذي لا ينتفع به ، والإيمان مثل الماء الصافي الّذي ينتفع به.
__________________
(١) المناقع جمع المنقع ، وهو الموضع يستنقع ـ أي : يجتمع ـ فيه الماء.