وأصحابنا رضوان الله عليهم استدلّوا بهذه الآية على أنّ الأنبياء يرثون المال ، وأنّ المراد بالإرث فيها المال دون العلم والنبوّة ، لأنّ لفظ الميراث في اللغة والشريعة لا يطلق إلّا على ما ينقل من الموروث إلى الوارث كالأموال ، ولا يستعمل في غير المال إلّا على طريق المجاز ، ولا يجوز الانتقال من الحقيقة إلى المجاز بغير دليل.
وأيضا فإنّ زكريّا عليهالسلام قال في دعائه : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) أي : اجعل يا ربّ ذلك الوليّ الّذي يرثني مرضيّا عندك قولا وفعلا ، ممتثلا لأمرك. ومتى حملنا الإرث على النبوّة ـ كما زعم العامّة ـ لم يكن لذلك معنى ، وكان لغوا. ألا ترى أنّه لا يحسن أن يقول أحد : اللهمّ ابعث إلينا نبيّا واجعله مرضيّا في أخلاقه ، لأنّه إذا كان نبيّا فقد دخل الرضا وما هو أعظم منه في النبوّة.
ويقوّي ما قلناه : أنّ زكريّا عليهالسلام صرّح بأنّه يخاف بني عمّه بعده بقوله : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي). وإنّما يطلب وارثا لأجل خوفه ، ولا يليق خوفه منهم إلّا بالمال دون النبوّة والعلم ، لأنّه كان أعلم بالله من أن يخاف أن يبعث نبيّا من ليس بأهل للنبوّة ، وأن يورث علمه وحكمته من ليس لهما بأهل. ولأنّه إنّما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس ، فكيف يخاف من الأمر الّذي هو الغرض في بعثته؟! فعلى هذا التحقيق : المراد بقوله : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) خفت تضييع الموالي مالي ، وإنفاقهم إيّاه في معصية الله عزوجل. فاستجاب الله دعاءه ، وأوحى إليه وعدا بإجابة دعائه.
(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠))