فإن قلت فأرى الناس يختلفون في الحدود وهذا الكلام يكاد يحيل الخلاف في الحد أفترى أن المتنازعين فيه ليسوا عقلاء.
فاعلم أن الخلاف في الحد يتصور في موضعين : أحدهما أن يكون اللفظ بكتاب اللّه أو سنّة رسوله أو قول إمام من الائمة ، ويكون ذلك اللفظ مشتركا فيقع النزاع في مراده به ، فيكون قد وجد التوارد على مراد القائل والتباين بعد التوارد ، فالخلاف تباين بعد التوارد. ولذا فلا نزاع بين من يقول السماء قديم وبين من يقول المغصوب مضمون ، إذ لا توارد ، ولو كان لفظ الحد من كتاب اللّه تعالى أو كتاب إمام يجوّز التنازع في مراده ويكون إيضاح ذلك من صنعة التفسير لا من صناعة النظر بالعقل. الثاني أن يقع الخلاف في مسألة أخرى على وجه محقق ويكون المطلوب حدّه أمرا بائنا ولا يحدّ حده على المذهبين فيختلف. كما يقول المعتزلي حدّ العلم اعتقاد الشيء ، ونحن نخالفه في ذكر الشيء ، فإن المعدوم عندنا ليس بشيء ، فالخلاف في مسألة أخرى تتعدّى إلى الحد ، ولذلك يقول القائل حدّ العقل بعض العلوم الضرورية على وجه كذا ، ويخالف من يقول في حدّه إنه غريزة يتهيأ بها إدراك المعقولات من حيث أنه ينكر وجود غيره ، بل يقول ليس في الإنسان إلا جسم وفيه حياة وعلوم ضرورية إما غريزية أو مكتسبة وعلوم نظرية ، فلا يتميّز بها القلب عن العقب والإنسان عن الذباب. فإن اللّه قادر على خلق العلوم النظرية في العقب وفي الذباب فيثير الخلاف في غير الحد خلافا في الحد. فهذا وإن أوردناه في معرض الامتحان فقد أفدناك به ما يجري على التحقيق مجرى القوانين.
الامتحان الثاني : اختلف في حد العلم فقيل هو المعرفة وهذا حد لفظي وهو أضعف أنواع الحدود ، فإنه تكرير لفظ بذكر ما يرادفه. كما يقال حد الحركة النقلة ولا يخرج عن كونه لفظيا بأن يقال معرفة المعلوم على ما هو به لأنه في حكم التطويل والتكرير ، إذ المعرفة لا تطلق إلا على ما هو