دفع الفرد نحو الاختيار والانطلاق طلبا للرزق وسعيا في الإنتاج ، بدلا من التوكّل والخمول (١). ولا عجب في أن نرى عصر الغزالي يشهد نشاطا تجاريّا وعمرانيّا بالرغم من الصراع والتمزّق السياسيّين. ولم يعتنق الغزالي مذهب الاعتزال كليّا ، بل وقف وسطا بينه وبين الجبريّة السنيّة متبنّيا المذهب الأشعريّ الذي أنشأه : «أبو الحسن علي الأشعريّ ـ (توفي ٣٠٢ ه / ٩٣٥ م) ـ عني بالتوفيق بين منهج المعتزلة الكلاميّ وبين تفكير السنّة ، نجد نظام الملك يشجّع هذه النزعة ... ويؤيّدها ...» (٢). ولعب هذا التشجيع دورا مؤثّرا في تبنّي الغزالي الأشعريّة ، التي ألّف فيها واعتبر أحد أقطابها.
نادى الأشاعرة بنظريّة الكسب الإنسانيّ ، ومؤدّاها رفض موقف السلف الذي يرى : أنّ اللّه يخلق كلّ أفعال العبد ، ورفض موقف المعتزلة القائل : إنّ العبد يخلق أفعاله. ومن ثمّ القول إنّ الفعل مخلوق للّه الحرّ ، وإنّ العبد يكتسبه مختارا بين مجموعة من الممكنات (٣).
__________________
(١) تقابل روح الخمول روح التجارة والمغامرة وطلب السفر والعناء؛ وقد ظهرت بذورها قبل عصر الغزالي وفي أثنائه. ويمدّنا كتاب البخلاء بصورة عن طبقة ماليّة نشطة ومدّخرة. كما تصوّر حكايات السندباد البحريّ رموزا من المغامرات التجاريّة ، ولا سيّما بين البصرة والمدن الأخرى. وذكر ، عبد العزيز الدوري : في كتابه مقدّمة في التاريخ الاقتصادي العربيّ ، ط أولى ، بيروت ، دار الطليعة ، ١٩٦٩ ، ص ٣٧ وما بعد ، عن اضطرابات أصحاب صناعة النسيج ، ما يشير إلى ظهور الحرف والصناعات بشكل أوّليّ. وترافق ذلك مع الحريّة العقليّة والجدّ والاجتهاد. إذ لعب التفكير العقليّ الحرّ دورا منشّطا ، اعتمد به الفرد على ذاته. ونقارن ذلك بدور البروتستانتيّة وبما قاله ماكس فيبر عن أثرها وفعاليّتها في ظهور الرأسماليّة بأوروبة. وقد ارتكزت آراء الدوري السابقة على إجماع المؤرخين وذكرهم لظهور الحرف والتبضّع ، استنادا إلى المنتظم لابن قيّم الجوزيّ ، والكامل لابن الأثير ، وتاريخ الوزراء للصابي ، وتجارب الأمم لابن مسكويه ، مع إشارتها إلى الأنظمة الضرائبيّة الخاصّة بهذه الحرف.
(٢) بروكلمان ، تاريخ الشعوب الإسلاميّة ، ص ٢٧٥.
(٣) الشهرستاني ، أبو الفتح محمد ، نهاية الإقدام في علم الكلام ، أوكسفورد ، يونيفرستي برس ، ١٩٣١ ، ص ٦٧ ـ ٧٨.