فعلت المذاهب الفقهيّة والأصوليّة السنّيّة فعلها في آراء الغزالي ، وخصوصا مذهب الإمام الشافعيّ (١٥٠ ـ ٢٠٤ ه / ٧٦٩ ـ ٨٢٥ م). وقد تلقّى الكثير من الفقه والأصول على يد الجويني كما ذكرنا. لكنّ تفصيله وتجديده الأصوليّين تأثّرا بمطالعاته المنطقيّة ، إضافة إلى رغبته العارمة في القضاء على روح الانحراف ، والتي تفشّت في عصره على أيدي قضاة الشرع الذين نزعوا إلى استغلال مناصبهم (١). فدفع ذلك الغزالي إلى أن يتشدّد في قواعد الفقه ، ويقيّدها بطرق الاجتهاد الصارمة التي وضع لها الأسس والمناهج ، رافضا الاستحسان وكلّ استدلال يخرج على النسق المعياريّ المنطقيّ (٢).
انجذب الغزالي بالتيّار الصوفيّ الذي نضج واكتمل على أيدي المحاسبي (توفي ٢٤٣ ه / ٨٥٨ م) والبسطامي (٢٦١ ه / ٨٧٤ م) والحلاج (٣٠٩ ه / ٩٢٢ م) (٣) وأبي طالب المكّي (٣٨٦ ه / ٩٩٧ م).
وانتشرت التكايا والفرق الصوفيّة في عصره بشكل كثيف ، فاختلط سلوكها بمعارف صوفيّة وآراء فلسفيّة وكلاميّة. بل سلك بعضها طريقا عمليّا يعتمد (الدروشة) ويستخدم الوسائط من صياح ورقص وإنشاد : «والحق أنّ تعاطي المنبّهات كان فاشيا في الحلقات الصوفيّة ...» (٤). وقف الغزالي من كلّ هذه التيّارات موقفا وسطا ، باستثناء موقفه المعارض للباطنيّة. فقد توسّط السلف وعقليّي الإسلام. ووقف وسطا بين الشيعة والسنّة سياسيّا وضد غلاة الباطنيّة. وارتبط بموقف فكريّ وساطيّ بين الأدلّة الإيمانيّة المسلّمة تسليما مطلقا ، وبين مناهج البحث والنظر المنطقيّة العقليّة. وهو يقول في ذلك : «فالذي يقنع بتقليد الأثر والخبر وينكر مناهج البحث والنظر لا يستتبّ له
__________________
(١) بروكلمان ، تاريخ الشعوب الإسلاميّة ، ص ٢٨٠.
(٢) سنفصّل ذلك في الفصل الثالث من الباب الثاني.
(٣) أفرد الغزالي كتاب مشكاة الأنوار للدفاع عن بعضهم.
(٤) بروكلمان ، تاريخ الشعوب الإسلاميّة ، ص ٢٨٢.