كلّ ذلك في كتاب سمّاه ، معيار العلم. وتتابعت لديه عملية المزج فاكتملت بكتاب محكّ النظر ، وفيه إلباس المنطق حلّة إسلاميّة كاملة ، بحيث حدثت عمليّة التطعيم تماما. كان ذلك إبّان تدريسه في بغداد وقبل ارتحاله عنها عام (٤٨٨ ه / ١٠٩٦ م) (٢).
رافقت أزمة الغزالي الشكّيّة النفسيّة ، أزمة معرفيّة حاول أن يحلّ فيها كلّ تناقض بين عقيدتين أو موقفين تلقّاهما. فأبطل ما يخالف الدين على المستوى الطبيعيّ والإلهيّ ، وهذّب ما استطاع من المنطق. ووجد أنّ اعتناقا مزدوجا للفلسفة العقليّة وللدين يؤدّي بالفرد إلى الاضطراب المعرفيّ والنفسانيّ. فخرج بعدها بكتاب إسلاميّ الشكل والمبنى والمعنى والاستعمال ، هو القسطاس المستقيم (٣). وفيه تهذيب المنطق خلال الرد على الباطنيّة ودحض مقدّماتهم الجدليّة. وقد كتبه الإمام عام (٤٩٧ ه / ١١٠٤ م) عقب تعمّقه في المسألة المنطقيّة ، واعتصار فكره فيها ، موفّقا بينها وبين الدين الذي استخرج منه المنهج. كلّ ذلك إرضاء للقارىء المؤمن وتفهيما له. ويعتبر موقت ظهور القسطاس موقت هدوء واستقرار معرفيّ عند الشيخ. إذ كان قد وصل حينذاك إلى شيء من اليقين وثبات المعارف ، مجتازا المراحل الشكّيّة السابقة وتضارب الاتّجاهات في ذهنه.
أفرد الإمام بعدها مصنّفه المشهور المستصفى من علم الأصول ، الذي ظهر عام (٥٠٣ ه / ١١٠٩ م) (١). وفيه أرسل أصول الفقه ناضجة ، بعد أن تحرّر من كلّ تأثير أصوليّ سابق. وعمل على مزج الاجتهاد بالمنطق ، فظهرت آراؤه عقليّة محضا ، تستند على نسق قياسيّ واستدلاليّ واضح.
وقد جدّد وابتكر في الكثير من المسائل وكان أن مهّد لهذا الكتاب بمقدّمة
__________________
(١) يمكن مراجعة مقدّمة الأب فكتور شلحت اليسوعي لكتاب القسطاس المستقيم ، في الحاشية ص ١٥ ، بيروت ، المطبعة الكاثوليكيّة ، ١٩٥٩.
(٢) المصدر نفسه ، ص ١٥.
(٣) المصدر نفسه ، ص ١٥.