ـ التفصيل الرابع : بيان عكس القضيّة.
يتبيّن اختلاف التركيب الشكلي والتبويب جزئيا عن المعيار والمقاصد. لكنّ الأبحاث المنطقيّة التي تناولت القضيّة في المحكّ بمضمونها وموضوعاتها لم تبتعد تماما عن أبحاث القضيّة في الكتابين السابقين. ويتباين المضمون هنا في جانب التركيب البنيويّ للمصطلحات والتعابير والغرض والتوجّه. فإذا كان الكتابان السابقان قد تأثرا بابن سينا تأثرا واضحا ، فإن المحكّ يميل نحو المعاني الإسلامية والفقهيّة ميلا محضا. وتنقلب تعابيره وأمثلته مشكّلة أغراضا جديدة كما سنرى ، من دون الخروج على أطر المنطق الأساسية. وأشار الغزالي في نهاية المحكّ إلى العودة للمعيار ولمن يرغب في التفصيل والشرح. قائلا : «هذا الكتاب مع صغر حجمه حرّكت به أصولا عظيمة ، إن أمعنت في تفهّم الكتاب تشوقت إلى مزيد إيضاح في بعض ما أجملته واشتغلت لحكم الحال عن تفصيله ، وذلك التفصيل قد أودعت بعضه كتاب معيار العلم ...» (١) وتدل هذه الإشارة على وحدة المسألة المنطقيّة في خلفيّة الإمام من دون أن يعني ذلك عدم وجود التباين بين المحكّ والمعيار. ويعمل الغزالي بالرغم من هذا التباين على ربط المحكّ بالمعيار ، استمرارا في تطعيم المنطق بالتفكير الإسلاميّ ، وخصوصا في المحكّ ومقدّمة المستصفى.
وقد جعل مبحث القضيّة في المحكّ قالبا إسلاميا من دون أن يتخلّى عن مضامينها المنطقيّة. إذ يبدأ الفصل على نمط ما جاء في الكتب سابقا ، فيستعمل عدّة مصطلحات للتعبير عن عناصر القضيّة ، قائلا : «أحكام السوابق المعاني المؤلّفة تأليفا يتطرّق إليه التصديق والتكذيب ، كقولنا مثلا : العالم حادث والباري تعالى قديم. فإنّ هذا يرجع إلى تأليف القوّة المفكّرة بين معرفتين ، لذاتين مفردتين ونسبة أحدهما إلى الآخر بالإثبات.
__________________
(١) الغزالي ، المحكّ ، ص ١٣٣.