شرحه لها في المحك مماثلا لشرحه في المقاصد والمعيار. ووردت الأمثلة نفسها تقريبا ، مع تفصيل في المحكّ بين الإحساس وقسمته إلى باطن وظاهر. ومن عمليات الطرح والإبدال بين المعيار والمحكّ ما طرأ على الأوليّات التي سيطرت على المحك والمستصفى ، وخفت ضوء ما يقابلها من اصطلاح عقليّ ، يدّعي بديهة العقل.
وكان أن استخدم الغزالي بديهة العقل في المعيار والمقاصد بشكل ظاهر على الأوّليّ. والبديهي من المهمّ في مصادر اليقين. وقد عرّفه الجرجاني قائلا : «هو الذي لا يتوقف حصوله على نظر وكسب سواء احتاج إلى شيء آخر من حدس أو تجربة أو غير ذلك أو لم يحتج (١). أمّا الأولي ف «هو الذي بعد توجّه العقل إليه ، لم يفتقر إلى شيء أصلا من حدس أو تجربة ، أو نحو ذلك ، كقولنا الواحد نصف الاثنين ..» (٢). ونرى أنّ الأوليّ والبديهيّ لهما المعنى نفسه ، لكنهما يختلفان في دلالات كلّ لفظة لغويّا ، وفي ما توحيان به. فالأوليّ نظرة عددية ، أوّل وثان ، بمعنى غير المتكرر والمتكثّر ، والذي لا يحتاج إلى استدلال وترابط وتضايف. ويوحي من خلال بعده بتصنيف معيّن في مادة القضايا ، لأنّ الأوليّ منها هو النصّ والشرع وكلام الخالق ، فهو الأول والواحد والأصل. بينما البديهيّ معنى عقليّ نفسيّ بمفهوم الإدراك المباشر. وقد طغى التعبير بحسب أغراض ومعطيات كلّ كتاب ، عقليّة منطقيّة كانت أو دينيّة أصوليّة. وملخّص مادة القياس ويقينيّته في المحكّ خليط من الإحساس والتجربة والتواتر والعقل.
وتدلّ كلّ لفظة على اتّجاه معيّن في المعرفة. إلا أنّها جميعها تشير إلى تعدّد مصادر اليقين ، وتثبت تعدديّة الخلفيّة المعرفيّة عند الإمام. وقد شكّ بها الغزالي وصولا للحقيقة ، وما لبث أن أصرّ مجدّدا ، في كتبه الأخيرة ، على كونها مصادر اليقين (٣).
__________________
(١) الجرجاني ، التعريفات ، ص ٢٩.
(٢) المرجع نفسه ، ص ٢٦.
(٣) الغزالي ، مقدمة المستصفى ، ص ٢٩.