لا حدّ له ، ويتصوّر بذاته ، لا يحتاج فى تصوره إلى شىء ، إذ هو أولىّ التصور ، ويعرف بذاته إذ لا سبب له. ويقع على الفعل المحكم ، والفعل المحكم هو أن يكون قد أعطى الشىء جميع ما يحتاج إليه ضرورة فى وجوده وفى حفظ وجوده بحسب الإمكان : إن كان ذلك الإمكان فى مادة فبحسب الاستعداد الذي فيها ، وإن لم يكن فى مادة فبحسب إمكان الأمر فى نفسه كالعقول الفعالة. وبالتفاوت فى الإمكانات تختلف درجات الموجودات فى الكمالات والنقصانات. فإن كان تفاوت الإمكانات فى النوع كان الاختلاف فى النوع ، وإن كان ذلك التفاوت فى إمكانات الأشخاص فاختلاف الكمال والنقصان يكون فى الأشخاص ، فالكمال المطلق يكون حيث الوجوب بلا إمكان والوجود بلا عدم والفعل بلا قوة والحق بلا باطل. ثم كل تال فإنه يكون أنقص من الأول وكل ما سواه فإنه ممكن فى ذاته. ثم الاختلاف من التوالى والأشخاص والأنواع يكون بحسب الاستعداد والإمكان ، فكل واحد من العقول الفعالة أشرف مما يليه. وجميع العقول الفعالة أشرف من الأمور المادية ، ثم السماويات من جملة الماديات أشرف من عالم الطبيعة. ويريد بالأشرف هاهنا ما هو أقدم فى ذاته ولا يصح وجود تاليه إلا بعد وجود متقدمه. وهذا أعنى الإمكانات هى أسباب الشر. فلهذا لا يخلو أمر من الأمور الممكنة من مخالطة الشر ، إذ الشر هو العدم كما أن الخير هو الوجود. وحيث يكون الإمكان أكثر كان الشر أكثر. وكما أنه يعطى كل شىء ما يحتاج إليه فى وجوده وبقائه فكذلك يعطيه ما فوق المحتاج إليه فى ذلك : مثلا أن يعطى الإنسان الحكمة والعلم بالهيئة إذ ليس الإنسان محتاجا فى بقائه ووجوده إلى علم الهيئة. فما لا بد منه فى وجوده هو الكمال الأول ، وذلك الآخر هو الكمال الثاني. فواجب الوجود يعلم كل شىء كما هو بأسبابه ، إذ يعلم كل شىء من ذاته التي هى سبب كل شىء لا من الأشياء التي هى من خارج. فهو بهذا المعنى حكيم وحكمته علمه بذاته ، فهو حكيم فى علمه ، محكم فى فعله. فهو الحكيم المطلق. وواجب الوجود أيضا هو علة كلّ موجود ، قد أعطى كل موجود كمال وجوده وهو ما يحتاج إليه فى وجوده وبقائه ، وزاده أيضا ما لا يحتاج إليه فى هذين. وقد دل القرآن على هذا المعنى حيث يقول : «رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ» (١). فالهداية هى الكمال الذي لا يحتاج إليه فى وجوده وبقائه ، والخلق هو الكمال الذي يحتاج إليه فى وجوده وبقائه.
________________
١) سورة «طه» آية ٥٠