محل يحلّه فهو في ذاته أيضا يكون غنيا عن محل يحلّه ، فالنفس غنية عن المحل.
أمّا بيان أنّ النفس غنية في فعلها عن المحلّ فوجوه ثلاثة :
الأوّل أنّها تدرك نفسها ، ومن المستحيل أن يكون بينها وبين ذاتها آلة فهي في إدراك ذاتها غنية عن الآلة.
الثانى أنّها تدرك إدراكها لنفسها وليس ذلك بآلة.
الثالث أنّها تدرك آلتها التي تدعى لها ، وليس بينها وبين آلتها آلة أخرى فثبت أنّ النفس غنية في فعلها عن الآلة والمحلّ ، وكل ما كان كذلك فهو في ذاته أيضا يكون غنيا عن المحلّ لوجهين :
أحدهما أنّ القوى النفسانية لما كانت جسمانية ، وكانت محتاجة في ذاتها إلى محالّها لا جرم تعذر عليها إدراك ذواتها وإدراك إدراكاتها وإدراك آلتها فلو كانت القوّة العاقلة جسمانية لتعذر عليها ذلك.
وثانيهما أنّ مصدر الفعل هو الذات فلو كانت الذات متعلقة في قوامها ووجودها بذلك المحل كان الفعل صادرا عن تلك الجهة فيكون للجهة المتعلقة بذلك الفعل مدخل في ذلك الفعل فيكون الفعل بمشاركة ذلك المحلّ وقد فرض انّه ليس كذلك فظاهر أنّ النفس غنية عن المادة.
ولقائل أن يقول : لم قلتم أنّ القوّة العاقلة لمّا كانت وحدها هي المدركة لذاتها ، ولإدراكها لذاتها ، ولإدراكها لآلتها وجب أن لا تكون جسمانية فأمّا قولكم إنّ القوى الحساسة لمّا كانت جسمانية تعذر عليها ذلك فالقوّة العاقلة لو كانت جسمانية لتعذر عليها ذلك.
فنقول : لم قلتم إنّ تلك القوى أنّما تعذر عليها هذه الإدراكات لكونها جسمانية ، وهل هذا إلّا من باب التمثيلات التي بيّنوا فسادها في المنطق؟
وأمّا قولهم : ما لا يتوقف في اقتضائه لآثاره على المحل لا يتوقف في ذاته على المحل ، فنقول : أليس أنّ الصور والأعراض محتاجة إلى محالّها ، وليس احتياجها إلى محالّها إلّا بمجرد ذواتها ثمّ لا يلزم من استقلالها باقتضاء ذلك الحكم استغناؤها في