إن كان من المدرك للمدرك بغير واسطة فلا القوة الباصرة ولا العقل يدركان آلتيهما ، وإن كان بواسطة فالعقل يدرك آليته ويعرفها بعلم فيه حدود وسطى ، ودلائل هي الوسائط في العلم ، والعين أيضا تبصر ذاتها ، بل القوّة الباصرة تبصر العين التي هي آلتها بواسطة كالمرآة ، وتلك الواسطة في الدلالة للقوّة العاقلة كالمرآة في الإبصار للباصرة. ويبقى إدراك الذات متشابها في الإدراكات الحسية والعقلية ، فإن كان المدرك فيها كلها نفس الإنسان الواحد كما قلنا فهي تدرك ذاتها ، وأنها أدركت في كل ما يدرك ومع كل إدراك فتبصر وتسمع وتشعر بذاتها وإبصارها وسمعها وأنّها أبصرت وسمعت فإنّ الإنسان يشعر من ذاته بذاته في سائر أفعاله الإرادية وإدراكاتها وإن كانت المدركات الحسية قوى أخر غير ذات النفس فهي غير ذات الإنسان الذي يعرض حال نفسه على نفسه فيعلم حاله ولا يعلم حالها في ذلك وهل تدرك ذواتها أم لا لأنّها غير ذاته وهو يشعر بحال ذاته من ذاته ولا يلزم أن يشعر بحال غيره من ذاته. فأما حديث الآلة فما لا يدرك إلّا بآلة معيّنة لا يدرك بسواها لا يدرك الآلة فإنّ الإنسان إذا كان لا يبصر إلّا بعينه وأن كان هو الباصر فلا عين له يبصر بها عينه.
وكذلك لا يبصر ذاته بعينه لأنّ العين لا تتوسط بينه وبين ذاته وكيف ونفسه غير مرئية بالعين ولا بشيء من الحواس لأنّها ليست من جنس ما يدرك بالحواس فلا هي لون تراه العين ، ولا صوت تسمعه الأذن ، ولا حرارة يحسّها اللمس ، ونسبتها إلى الحواس كنسبة الصوت إلى العين ، واللون إلى الأذن ، والألوان هي التي يدركها البصر أولا وبالذات ويدرك من أجلها ذوات الألوان فما ليس بلون ولا ذى لون لا يدركه البصر بالذات ولا بالعرض فمن طلب أن يرى نفسه بعينه فما عرف نفسه ولا عينه.
أمّا الجواب عن الاعتراض فنقول : قوله : «فلا القوّة الباصرة ولا العقل يدركان آلتيهما» لو لم يدرك جوهر العقل أى النفس الناطقة آلاته بذاته فكيف يستعمل كل واحدة منها فيما خلقت لأجله بحيث لا تعصيه ما أمره وتفعل ما أمرت به؟ ثمّ كيف يتصور توسط الآلة بينه وبين آلاته ويلزم من التفوه بالتوسط تسلسل الآلات ، فضلا؛ عن توسطها بينه وبين إدراكه ذاته؟ فلا يكون إدراك الذات متشابها في الإدراكات