هـ) ومن الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا
أنّ الإنسان يسمع الصوت ويميّز بين القريب والبعيد منه وهما من المعانى فالسمع بمعزل عن إدراكها. وصاحب الأسفار في الفصل الثانى من الباب الرابع من الجواهر والأعراض منه بعد إثبات وجود الصوت في الخارج ، أفاد بقوله الشريف :
أنّ المدرك والمحسوس لا بدّ وأن يكونا أمرا موجودا عند المدرك حالة إدراكه والموجود عند الجوهر الحاس لا بدّ وأن يكون ملاصقا له ، وهيئة الصوت وشكل التموّج وإن كانا موجودين عند السامعة لكن صفتى القرب والبعد غير موجودتين عندها. والتحقيق أن يقال إن تعلق النفس بالبدن يوجب تعلقها بما اتصل به كالهواء المجاور بحيث كأنهما شيء واحد تعلقت به النفس تعلّقا ولو بالعرض ، فكلما حدث فيه شيء مما يمكن للنفس إدراكه بشيء من الحواس من الهيئات والمقادير والأبعاد بينها والجهة التي لها وغيرها فأدركت النفس له كما هو عليه. انتهى كلام صدر المتألهين في المقام (ج ٢ ، ص ٣٢ ، ط ١).
أقول : قوله «والتحقيق أن يقال إلخ» ، هذا التحقيق الأنيق هو أحد البراهين على أنّ النفس الناطقة تصير بتكاملها الجوهرى عارية عن المواد ومجرّدة عن الأحياز وسائر أوصاف المادة وهذا التحقيق كلام سام سامك يعقله من كان له قلب.
فالنفس الناطقة لمّا كانت غير منطبعة في البدن فبحكم تجرّدها النورى المبسوط تتعلق بما ورائه فيدرك القرب والبعد في الأصوات من هذه الحيثية. ويمكن إدراج هذا الدليل في الرابع من هذا الباب ، كما لا يخفى على المستبصر.