ز) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّاً عقليّاً
هذا البرهان من أوثق البراهين على أنّ النفس الناطقة من سنخ المفارقات النورية ونشأتها غير عالم الأجسام الماديّة. وهذا البرهان ناطق بأنّ الحواسّ لا تعلم أنّ للمحسوس وجودا في الخارج بل هذا شأن العقل ، والعقل هو النفس الناطقة العاقلة المجرّدة تجرّدا تامّا عقليا. فنأتى بما حرّره صاحب الأسفار في الفصل الثانى من الطرف الثالث من المسلك الخامس «المرحلة العاشرة» منه في العقل والمعقول ، قال :
فصل في أنّ الحواس لا تعلم أنّ للمحسوس وجودا في الخارج بل هذا شأن العقل : إنّ الإدراكات الحسّية يلزمها انفعال آلات الحواس ، وحصول صور المحسوسات سواء كانت في آلات الحواس كما هو المشهور وعليه الجمهور ، أو عند النفس بواسطة مظهريتها كما هو الحق؛ فهو أنّما يكون بسبب استعداد مادة الحاسة له ، فإنّ لامسة أيدينا مثلا انّما تحس بالحرارة وتتأثر عنها للاستعداد الذي هو فيها؛ والبصر انّما يقع فيه الإحساس بصورة المبصر للاستعداد الذي هو فيه؛ والسمع انّما يحصل فيه الصوت للاستعداد الذي هو فيه ، وليس للحواس إلا الإحساس فقط وهو حصول صورة المحسوس فيها ، أو في النفس بواسطة استعمالها ، فالحواس أو النفس الحساسة بما هي حساسة ليس لها علم بأنّ للمحسوس وجودا في الخارج ، انّما ذلك ممّا يعرف بطريق التجربة فهو شأن العقل أو النفس المتفكّرة ، وليس شأن الحسّ والخيال.
والدليل على صحة ما ذكرناه أنّ المجنون مثلا قد تحصل في حسّه المشترك صور يراها فيه ، ولا يكون لها وجود من خارج ، ويقول ما هذه المبصرات التي أراها؟