وقد تسأل على أي نحو تحصل للانسان هذه الادراكات؟ ونحن قد قربنا لك فيما مضى نحو حصول هذه الادراكات بعض الشيء ، ولزيادة التوضيح نكلفك أن تنظر إلى شيء أمامك ثم تنطبق عينيك موجها نفسك نحوه ، فستجد في نفسك كأنك لا تزال مفتوح العينين تنظر إليه ، وكذلك إذا سمعت دقات الساعة مثلاً ـ ثم سددت أذنيك موجها نفسك نحوها ، فستحس من نفسك كأنك لا تزال تسمعها وهكذا في كل حواسك. إذا جربت مثل هذه الأمور ودققتها جيداً يسهل عليك أن تعرف أن الإدراك أو العلم إنما هو انطباع صور الأشياء في نفسك ولا فرق بين مدركاتك في جميع مراتبها ، كما تنطبع صور الأشياء في المرآة (١). ولذلك عرفوا العلم بأنه : «حضور صورة (٢) الشيء عند العقل (٣)». أو فقل انطباعها في العقل ، لا فرق بين التعبيرين في المقصود.
التصور والتصديق
إذا رسمت مثلّثاً تحدث في ذهنك صورة له ، هي علمك بهذا المثلث ، ويسمى هذا العلم (بالتصور). وهو تصور مجرد لا يستتبع جزما واعتقادا. وإذا تنبهت إلى زوايا المثلث تحدث لها أيضا صورة في ذهنك. وهي أيضاً من (التصور المجرد). وإذا رسمت خطأ أفقيا وفوقه خطأ عموديا مقاطعا له تحدث زاويتان قائمتان ، فتنتقش صورة الخطين والزاويتين في ذهنك. وهي من (التصور المجرد) أيضاً. وإذا أردت أن تقارن بين القائمتين
__________________
(١) على ما يراه الفهم الساذج المتعارف ، وإلا فلا صورة حقيقية في المرآة ، وإنما هي في ذهن الرائي فقط بتوسط المرآة.
(٢) في معنى الصورة راجع رسالة التصور والتصديق : ص ٤.
(٣) أي عند الذهن ، أعم من قوة الحس والخيال والوهم والقوة العاقلة.