كان التعارض بين الخبرين بالتباين أو بالعموم من وجه ، مع كون العموم في كل منهما بالوضع مع عدم رجحان أحدهما على الآخر بموافقة الكتاب ولا بمخالفة العامّة ، فانّ الخبرين يسقطان عن الحجّية ويرجع إلى الأصل العملي ، لما سنذكره في بحث التعادل والترجيح (١) من عدم تمامية أدلة التخيير ، ولا أدلة الترجيح بغير موافقة الكتاب ومخالفة العامّة من المرجحات التي ذكروها في المقام ، فانّ أدلة التخيير وأدلة الترجيح بتلك المرجحات غير تامّة من حيث السند أو من حيث الدلالة أو من الجهتين.
نعم ، إذا وقع التعارض بين الخبرين بالتباين أو بالعموم من وجه ، مع كون العموم فيهما بالوضع وكان أحدهما موافقاً لظاهر الكتاب أو مخالفاً للعامّة تعيّن الأخذ به بمقتضى رواية الراوندي (٢) الدالة على كون موافقة الكتاب ومخالفة العامّة من المرجّحات في الخبرين المتعارضين ، فلا يمكن الرجوع إلى الأصل العملي. وعليه فالمناسب بل المتعيّن إدخال تعارض الدليلين بجميع صوره في بحث البراءة ، إلاّصورة واحدة وهي ما إذا كان التعارض بين الخبرين بالتباين أو بالعموم من وجه مع كون العموم فيهما بالوضع ، وكان أحدهما راجحاً على الآخر بموافقة الكتاب أو بمخالفة العامّة.
الأمر الرابع : أنّ النزاع المعروف بين الاصوليين والأخباريين في مسألة البراءة إنّما هو في الصغرى وفي تمامية البيان من قبل المولى وعدمه. وأمّا الكبرى ـ وهي عدم كون العبد مستحقاً للعقاب على مخالفة التكليف مع عدم وصوله إلى المكلف ـ فهي مسلّمة عند الجميع ، ولم يقع فيه نزاع بين الاصوليين والأخباريين ، كيف وإنّ العقاب على مخالفة التكليف غير الواصل من أوضح
__________________
(١) المصدر السابق ص ٤٩٣ ـ ٤٩٥ ، ٥٠٨
(٢) الوسائل ٢٧ : ١١٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢٩