الثالث ممّا استدلّ به على وجوب الاحتياط : حكم العقل وتقريبه بوجوه :
الأوّل : أنّ كل مسلم يعلم إجمالاً في أوّل بلوغه بتكاليف إلزامية ، وهذا العلم الاجمالي ينجّز التكاليف الواقعية على تقدير ثبوتها ، وليست الطرق والأمارات رافعة لتنجزها ، إذ لا بدّ في انحلال العلم الاجمالي من ثبوت دليل يدل على نفي التكليف في بعض الأطراف إمّا مطابقة أو التزاماً ، والطرق والأمارات إنّما تثبت أحكاماً في مواردها ، وليس لها تعرّض لنفي أحكام اخر في غير مواردها ، فالتنجز يبقى على حاله ، فإذا علمنا إجمالاً بوجوب الصلاة مرددة بين الظهر والجمعة ، كان قيام الأمارة على أحدهما نافياً لوجوب الآخر بالالتزام ، فينحل به العلم الاجمالي لا محالة. وأمّا إن كان المعلوم بالاجمال أحكاماً كثيرة لا تعيّن لها ، فقيام الدليل على ثبوت أحكام في موارد خاصّة لا ينفي ثبوت الحكم في غيرها فلا ينحل العلم الاجمالي.
ولا يرد على هذا التقريب ما ذكره في الكفاية من أنّ قيام الأمارة على التكليف في بعض الأطراف يوجب صرف تنجّزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف ، مثلاً إذا علم بحرمة إناء زيد وتردّد بين إناءين ، ثمّ قامت البيّنة على أنّ أحدهما المعيّن إناؤه ، كان كما إذا علم أنّه إناؤه (١). وذلك لوجود الفرق الواضح بين مقامنا وبين المثال المذكور ، إذ المعلوم بالاجمال في المثال أمر معيّن خاص ، فقيام الأمارة على تعيينه في أحد الطرفين ينفي كونه في الطرف الآخر بالالتزام. وهذا بخلاف المقام ، فانّ المعلوم بالاجمال فيه أحكام لا تعيّن لها بوجه ، وليس لها عنوان وعلامة ، فقيام الأمارة على ثبوت التكليف في بعض الموارد لا ينفي ثبوته في غيرها.
__________________
(١) كفاية الاصول : ٣٤٧