فإن قيل : فما البرهان الذى رآه يوسف عليه السلام حتى انصرف لاجله عن المعصية ، وهل يصح ان يكون البرهان ما روي من ان الله تعالى اراه صورة ابيه يعقوب (ع) عاضا على اصبعه متوعدا له على مقاربة المعصية ، أو يكون ما روي من ان الملائكة نادته بالنهي والزجر في الحال فأنزجر. قلنا : ليس يجوز ان يكون البرهان الذي رآه فانزجر به عن المصعية ما ظنه العامة من الامرين اللذين ذكرناهما ، لان ذلك يفضي إلى الالجاء وينافي التكليف ويضاد المحنة ، ولو كان الامر على ما ظنوه لما كان يوسف عليه السلام يستحق بتنزيهه عما دعته إليه المرأة من المعصية مدحا ولا ثوابا ، وهذا من اقبح القول فيه (ع) ، لان الله تعالى قد مدحه بالامتناع عن المعصية واثنى عليه بذلك فقال تعالى : (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين) ، فأما البرهان ، فيحتمل ان يكون لطفا لطف الله تعالى به في تلك الحال أو قبلها ، فاختار عنده الامتناع من المعاصي والتنزه عنها ، وهو الذي يقتضى كونه معصوما لان العصمة هي ما اختير (ما اختار) عنده من الالطاف ، التنزه عن القيح والامتناع من فعله. ويجوز ان يكون معنى الرؤية ههنا بمعنى العلم ، كما يجوز ان يكون بمعنى الادراك ، لان كلا الوجهين يحتمله القول. وذكر آخرون : ان البرهان ههنا انما هو دلالة الله تعالى ليوسف (ع) على تحريم ذلك الفعل ، وعلى ان من فعله استحق العقاب لان ذلك ايضا صارف عن الفعل ومقو لدواعي الامتناع منه وهذا ايضا جايز. تنزيه يوسف عن محبة المعصية : (مسألة) : فإن قيل : كيف يجوز ان يقول يوسف (ع) : (رب السجن احب الي مما يدعونني إليه) ، ونحن نعلم ان سجنهم له معصية ومحنة ، كما ان ما دعوه إليه معصية ، ومحبة المعصية عند كم لا تكون الا قبيحة. (الجواب) : قلنا : في تأويل هذه الآية جوابان : احدهما : انه اراد بقوله (احب الي) اخف على واسهل ، ولم يرد المحبة التي هي الارادة على الحقيقة. وهذا يجري مجرى ان يخير أحدنا بين الفعلين ينزلان به ويكرههما ويشقان