وفي هذا الجيش ـ كما قدمنا في الفصل (٨) ـ ، أصحاب الفتن ، وأصحاب الطمع بالغنائم ، والخوارج ، وغيرهم ، ولم يكن لهؤلاء مرتع أخصب من هذه الفتن التي زرعتها هذه البوادر المؤسفة الثلاث.
وجمع الحسن الناس فخطبهم وناشدهم سلامة النية وحسن الصبر ، وذكرهم بالمحمود من أيامهم في صفين ، ثم نعى عليهم اختلافهم في يومه منهم. وكان أروع ما أفاده الحسن من خطابه هذا ، أنه انتزع من الناس اعترافهم على انفسهم بالنكول عن الحرب صريحاً ، واستدرجهم الى هذا الاعتراف بما تظاهر به من استشارتهم فيما عرضه عليه معاوية ، فقال في آخر خطابه : « الا وان معاوية دعانا لامر ليس فيه عزّ ولا نَصفة ، فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه الى اللّه عزّ وجل بظبا السيوف ، وان أردتم الحياة قبلناه منه وأخذنا لكم الرضا؟ ». فناداه الناس من كل جانب : « البقية البقية وأمض الصلح (١) ».
أقول : وليس في تاريخ قضية الحسن عليهالسلام روايتان كثر رواتهما حتى لقد أصبحت من مسلمات هذا التاريخ ، كرواية جواب الناس على هذه الخطبة بطلب البقية وامضاء الصلح ، ورواية ثورة الناس في المدائن انكاراً للصلح والحاحاً على الحرب!!. وليت شعري. فأيّ الرأيين كان هدف هؤلاء الناس؟.
وهل هذه الا بوادر الانقسام الذي أشرنا اليه آنفاً ، بل « الفوضى » التي لن يستقيم معها ميدان حرب ، والتي لا تمنع ان يكون المنادون بالصلح من كل جانب هم المنادين بالحرب انفسهم.
وما للفوضى ودعوة جهاد وصحبة امام؟!
وعلى أيٍّ ، فقد كان هذا أحد الوان معسكر المدائن وأحد ظواهر التلوّن في عساكره وتحكّم العناصر المختلفة في مقدراته.
__________________
١ ـ ابن خلدون وابن الاثير والبحار وغيرهم ـ وكنا عرضنا القسم الاول من هذه الخطبة فيما رويناه في تصريحات المؤرخين من هذا الفصل.