بالشفتين ، وقد يستعمل في الحاجبين والعينين أحيانا ، وفيه فائدتان ، إحداهما : أن يكون ذلك آية على علوق الولد ، والثانية : أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا ، وأقدره على الذكر والتسبيح والتهليل ، ليكون في تلك المدة مشتغلا بذكر الله تعالى ، والشكر على تلك النعمة الجليلة ، وعلى هذا التقدير يصير الشيء الواحد علامة على المقصود ، وأداء لشكر تلك النعمة فيكون جامعا لكل المقاصد ، هذا فضلا عن أن تلك الواقعة إنما كانت مشتملة على المعجز من وجوه ، أحدهما : أن قدرته على التكلم بالتسبيح والذكر ، وعجزه عن الكلام بأمور الدنيا ، من أعظم المعجزات ، وثانيهما : أن حصول ذلك المعجزة في تلك الأيام المقدورة ، مع سلامة البنية ، واعتدال المزاج ، من جملة المعجزات ، وثالثها : أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة فقد حصل الولد ، ثم إن الأمر خرج على وفق هذا الخبر يكون أيضا من المعجزات (١).
وولد يحيى عليهالسلام ، فشب على الطهر والاستقامة ، وكان آية في ورعه وزهده وطاعته لربه ، وبره بوالديه وآتاه الله العلم والحكمة ومنّ عليه بالرسالة ، وقد روى أنه لم يهم بمعصية قط ، ولم ينشغل في طفولته بما ينشغل به الأطفال ، وكان يقول : ما للعب خلقت ، وكان يحيى عليهالسلام هو الآية الثانية لبني إسرائيل ، وكانت الأولى ولادة مريم ، وكانت أمها «حمنة» عقيما لا تلد ، وأما الثالثة فكانت ولادة عيسى عليهالسلام من غير أب (٢) ، وقد قدم الله تعالى قصة يحيى ، وكذا مريم ، على قصة عيسى ، عليهمالسلام ، ذلك لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد من غير أب ، وأحسن الطرق في التعليم الأخذ من الأقرب فالأقرب مترقيا إلى الأصعب فالأصعب.
__________________
(١) تفسير الطبري ٣ / ٢٦٠ ، تفسير الفخر الرازي ٨ / ٤٠.
(٢) محمد خليل هراس : المرجع السابق ص ١٨٣.