بل قد كان أبو بكر وغيره ، ممن هو في طبقته ، قد استسرفوا أبا إسحاق ، رحمه الله ، فيما تجشّمه من قوة حشده ، وضمّه ما انتشر من المثل المتباينة إلى أصله ، وإن كان جميع ذلك راجعا إلى تركيب واحد ، ورأوا أنه لا ينبغي أن يضمّ ، من ذلك ، إلّا ما كان الجمع بينه وبين أصله واضحا جدّا ، فإن لم يكن وجه رجوع اللفظ إلى غيره بيّنا ـ بل التكلّف فيه باد ـ وجب أن يدّعى أنهما أصلان ، وليس أحدهما مأخوذا من الآخر ، نحو الجمع بين «حمار» و «حمرة» ، بأن يدّعى أن أصل هذا الاسم أن يقع على الوحشية منها ، وأكثرها حمر ، ثم شبّهت الأهليّة بها ، فوقع عليها الاسم ، فإذا كان الأمر عندهم على ما ذكرت لك ، مع اتّفاق اللّفظين في تركيب واحد ، فما ظنّك بهما ، إذا تغايرا في التركيب؟
والاشتقاق الأصغر حدّه أكثر النحويّين بأنه «إنشاء فرع من أصل يدلّ عليه» ، نحو «أحمر» فإنه منشأ من «الحمرة» ، وهي أصل له وفيه دلالة عليها ، وهذا الحدّ ليس بعام للاشتقاق الأصغر ؛ لأنه قد يقال «هذا اللّفظ مشتقّ من هذا» من غير أن يكون أحدهما منشأ من الآخر ، وذلك إذا كان تركيب الكلمتين واحدا ، ومعنياهما متقاربين ، وذلك نحو ما ذهب إليه أبو عليّ في «أولق» ، في أحد الوجهين ، من أنه مأخوذ من : ولق يلق ، إذا أسرع ، وذلك لأنّ «الأولق» : الجنون ، وهي مما يوصف بالسرعة ، فلمّا كانت حروف «أولق» ، إذا جعلته «أفعل» ، و «ولق» واحدة ، ومعنياهما متقاربين ؛ لأنّ الجنون ليست السرعة في الحقيقة ، بل يقرب معناها من معنى السرعة ، جعل «الأولق» مشتقا من «ولق» ، لا بمعنى أنّ «الأولق» مأخوذ من «ولق» ، بل يريد أنّ «الأولق» حروفه الأصول الواو واللّام والقاف ، كما أنّ «ولق» كذلك ، ويستدلّ على ذلك بأنّ العرب جعلت هذه الأحرف دالّة على السرعة ، و «الأولق» قريب في المعنى من السرعة ، فحروفه الأصول الواو واللّام والقاف ، وهمزته زائدة ، فيجعل سبب اتفاق «الأولق» و «ولق» في اللفظ تقاربهما في المعنى ؛ لأنّ هذا الاتفاق بين اللفظين وقع بالعرض ، كاتّفاق «الأسود» و «الأبيض» في لفظ «الجون» ، إذ لا جامع ، من طريق المعنى ، بين «الجون» الذي يراد به الأبيض و «الجون» الذي يراد به الأسود.
فإن قيل : فكيف يجوز أن تقول «هذا اللفظ مشتقّ من هذا اللفظ» ، وأحدهما ليس بمأخوذ من الآخر ، وقولك «مشتق» يعطي أخذ أحدهما من صاحبه؟
فالجواب : أنّ هذا على طريق المجاز ، كأنهما ـ لاتّحاد لفظيهما وتقارب معنيهما ـ قد أخذ أحدهما من الآخر ، كما تقول في الشّخصين المتشابهين : هذا أخو هذا ، تشبيها لهما بالأخوين.