جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب ، كما أن رضوان الله أكبر من الثواب في نفسه ، وصدّر كل نصيحة بقوله : يا أبت ، توسلا إليه واستعطافا ، وإشعارا بوجوب احترام الأب ، وإن كان كافرا (١).
غير أن الخلاف بين أبي الأنبياء وأبيه إنما كان عميق الجذور ، فإذا أبو إبراهيم يقابل الدعوة بالاستنكار والتهديد والوعيد ، بل ويأمر ولده بالهجرة ، ما دام راغبا عن آلهته ، حيث لا أمل في اتفاق ، ولم يغضب إبراهيم الحليم ، ولم يفقد بره وعطفه وأدبه مع أبيه «قال : سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ، وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا» ، وهكذا يرد الخليل عليهالسلام على تهديد أبيه «سلام عليك» ، فلا جدال ولا أذى ، ولا رد للتهديد والوعيد ، سأدعو الله أن يغفر لك فلا يعاقبك بالاستمرار في الضلال وتولى الشيطان ، بل يرحمك فيرزقك الهدى ، وقد عودني ربي أن يكرمني فيجيب دعائي ، وإذا كان وجودي إلى جوارك ودعوتي لك إلى الإيمان تؤذيك فسأعتزلك أنت وقومك ، وأعتزل ما تدعون من دون الله من الآلهة ، وأدعو ربي وحده ، بسبب دعائي لله ، ألا يجعلني شقيا (٢).
وقد استغفر إبراهيم لأبيه مدة طويلة ، وبعد أن هاجر إلى الشام ، وبعد أن بنى المسجد الحرام ، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهماالسلام ، في قوله «ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب» (٣).
ولم يجد سيدنا إبراهيم من بين القوم من يؤمن به ، إلا ابن أخيه لوط ، عليهالسلام ، يقول سبحانه وتعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى
__________________
(١) تفسير النسفي ٣ / ٣٦ ـ ٣٧.
(٢) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣١٢.
(٣) تفسير ابن كثير ٣ / ٢٠٠.