وهكذا كانت مواقف إبراهيم مع قومه متعددة ، فتارة يحاج والده ، وتارة يحاج الجمهور ، وتارة يحاج الملك ، وتارة يفعل ما يستفزهم إلى محاجته ، كتكسير الأصنام ليحاجوه في شأنها ، إلى أن أوقدوا النار لتحريقه ، فنجاته منها ، بعد أن ألقى فيها (١).
ويقص علينا القرآن الكريم ، في آيات كريمة من سورة مريم (٢) ، كيف بدأ إبراهيم الخليل عليهالسلام دعوته مع أبيه يهديه بها صراطا مستقيما ، كما أشرنا من قبل ، وكيف أن أباه قد رفض الدعوة ، وهدده إن لم ينته عنها ليرجمنّه وليهجرنه مليا ، فما كان من أبي الأنبياء ـ تأدبا مع أبيه وحدبا عليه ـ إلا أن يدعو له بالمغفرة ، وإلا أن ينتظر إجابة دعوته إلى حين.
غير أن الأمور سرعان ما بدأت تتأزم بين الخليل وقومه ، حين بذل أبو الأنبياء الجهد ، كل الجهد ، لصرفهم عن عبادة الأوثان ، والاتجاه إلى عبادة الله ، الواحد القهار ، إلا أن القوم ظلوا في طغيانهم يعمهون ، مما دفع الخليل إلى أن يجرب معهم وسائل حسنة ، ومن ثم فقد حطم الأصنام وترك كبيرهم ، لعل القوم يفكرون في هذا الموقف الجديد ، أملا في أن يهديهم الله سواء السبيل ، فيعرفوا أن هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعا ، ولا تمنع عنها ضرا ، فضلا عن أن يكون ذلك للقوم أنفسهم ، إلا أن هذه العقول المتحجرة ، لم تزد على أن تلجأ إلى العنف لنصرة أصنامها ، ولم تجد لها مخرجا من الموقف الجديد ، إلا أن تلقي بإبراهيم في نار ، ظنوا أنها ستكون القاضية على الخليل ، وأنها الحل السعيد لمشكلتهم ، مع هذا الذي سفه عقولهم وحطم أصنامهم ، دون أن يفكروا مرة في مقابلة الحجة بالحجة ، ودون أن يرجعوا إلى الحق ما دام الحق مع إبراهيم ، وتلك ـ ويم الله ـ عادة من طمس الله على قلوبهم ، وأعمى أبصارهم ، في كل زمان ومكان ، لا
__________________
(١) عبد الوهاب النجار : المرجع السابق ص ٨١.
(٢) سورة مريم : آية ٤١ ـ ٤٨.