لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون» ، فكانت قولته هذه دليل رشده ، فقد سمى تلك الأحجار والخشب باسمها ، فقال «هذه التماثيل» ، ولم يقل إنها آلهة واستنكر أن يعكفوا عليها بالعبادة ، وكلمة «عاكفون» تفيد الانكباب الدائم المستمر ، وهم لا يقضون وقتهم كله في عبادتها ، ولكنهم يتعلقون بها ، فهو عكوف معنوي لازمني ، وهو يسخف هذا التعلق ويبشعه بتصويرهم منكبين أبدا على هذه التماثيل.
وكان جوابهم وحجتهم أن «قالوا إنا وجدنا آباءنا له عابدين» ، وهو جواب يدل على التحجر العقلي والنفسي داخل قوالب التقليد الميتة ، في مقابل حرية الإيمان ، وانطلاق للنظر والتدبر ، وتقويم الأشياء والأوضاع بقيمها الحقيقية لا التقليدية ، فالإيمان بالله طلاقة وتحرر من القداسات الوهمية التقليدية ، والوراثات المتحجرة التي لا تقوم على دليل «قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ، وما كانت عبادة الآباء لتكسب هذه التماثيل قيمة ليست لها ، ولا لتخلع عليها قداسة لا تستحقها ، فالقيم لا تنبع من تقليد الآباء وتقديسهم ، إنما تنبع من التقويم المتحرر الطليق.
وعند ما واجههم إبراهيم بهذه الطلاقة في التقدير ، وبهذه الصراحة في الحكم ، راحوا يسألون : «قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ» ، وهو سؤال المزعزع العقيدة الذي لا يطمئن إلى ما هو عليه ، لأنه لم يتدبره ولم يتحقق منه ، ولكنه كذلك معطل الفكر والروح بتأثير الوهم والتقليد ، فهو لا يدري أي الأقوال حق ، والعبادة تقوم على اليقين ، لا على الوهم المزعزع الذي لا يستند إلى دليل ، وهذا هو هو التيه الذي يخبط فيه من لا يدينون بعقيدة التوحيد الناصعة الواضحة المستقيمة في العقل والضمير.
فأما خليل الرحمن ، صلوات الله وسلامه عليه ، فهو مستيقن واثق عارف بربه ، متمثل له في خاطره وفكره ، يقولها كلمة المؤمن المطمئن