ثم جاء مؤرخونا ونقلوا ما في التوراة ، وكأنه التاريخ الذي يرقى فوق كل هواتف الريبة والشك ، وهو غير ذلك بكل مقاييس منهج البحث التاريخي والديني.
هذا فضلا عن مؤرخينا أنفسهم هم الذين يزعمون أن النمرود إنما كان من الأنباط ، الذين لم يستقلوا بشبر واحد من الأرض ، ومن ثم فإن النمرود إنما كان عاملا للضحاك ، وهو فارسي ، على السواد وما اتصل به يمنة ويسرة (١) ، وليت هؤلاء الذين كتبوا ذلك كانوا يعرفون أن الأنباط لم يكونوا في العراق ، وإنما في شمال غرب الجزيرة العربية ، وأن عاصمتهم إنما كانت «البتراء» ، وأنهم أقاموا دولة مستقلة ، فيما بين القرنين الثاني قبل الميلاد ، وأوائل الثاني بعد الميلاد ، حيث استولى الرومان على البتراء عام ١٠٦ م ، على أيام «تراجان (٩٨ ـ ١١٧ م) ، ومن ثم فالفرق الزمني بين عهد الخليل عليهالسلام وبين عهد الأنباط ، جهد كبير (٢).
وأما أن نمرود هذا إنما كان أول من تجبر في الأرض ، فليس هناك من دليل يؤكده ، أو حتى يعضده ، والأمر كذلك إلى بنائه لصرح بابل ، بل إن هذا الصرح نفسه في حاجة إلى دليل يؤيد وجوده ، وأما أنه أول من ملك في الأرض ، فمن المعروف تاريخيا أن مصر إنما كانت أول «أمة» في التاريخ نمت فيها عناصر الأمة بمعناها الكامل الصحيح ، وبعدها كانت أول «دولة» بالمعنى السياسي المنظم ، نجحت في أن تؤسس أول ملكية عرفتها البشرية على طوال تاريخها وبالتالي فإن الملك «مينا» (نعرمر ـ عحا) مؤسس الأسرة المصرية الأولى ، إنما كان أول ملك في التاريخ ، وأن ذلك كان حوالى عام
__________________
(١) انظر عن دولة الأنباط (محمد بيومي مهران : تاريخ العرب القديم ـ الرياض ١٩٨٠ ص ٤٩٣ ـ ٥٢٣ ـ طبعة ثانية).
(٢) تاريخ الطبري ١ / ٢٩١ ـ ١٩٢ ، الكامل لابن الأثير ١ / ١١٦ ـ ١١٧ ، تفسير القرطبي ص ١٠٩٢.