ورأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه ، طيورا فارقتها الحياة ، وتفرقت مزقها من أماكن متباعدة ، تدب فيها الحياة مرة أخرى ، وتعود إليه سعيا ، وأما كيف؟ فهذا هو السر الذي يعلو على التكوين البشري إدراكه ، إنه قد يراه كما رآه إبراهيم ، وقد يصدق به ، كما يصدق به كل مؤمن ، ولكنه لا يدرك طبيعته ولا يعرف طريقته ، إنه من أمر الله ، والناس لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ، وهو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه ، لأنه أكبر منهم ، وطبيعته غير طبيعتهم ، ولا حاجة لهم به في خلافتهم ، إنه الشأن الخاص للخالق الذي لا تتطاول إليه أعناق المخلوقين ، فإذا تطاولت لم تجد إلا الستر المسدل على السر المحجوب ، وضاعت الجهود سدى ، جهود من لا يترك السر المحجوب لعلام الغيوب (١).
ويقول الإمام الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب : أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية قطعهن ، وعلى أن إبراهيم قطع أجزاءها ، وروى أنه عليهالسلام أمر بذبحها ونتف ريشها ، وتقطيعها جزءا جزءا ، وخلط دمائها ولحومها ، وأن يمسك رءوسها ، ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال ، على كل جبل ربعا من كل طائر ثم يصيح بها «تعالين بإذن الله» ، قال الراوي : فأخذ كل جزء يطير إلى الآخر حتى تكاملت الجثث ، ثم أقبلت كل جثة إلى رأسها ، وانضم كل رأس إلى جثته ، وصار الكل أحياء بإذن الله تعالى.
هذا ويقول صاحب مفاتيح الغيب أن الاجماع قد انعقد على ما قاله ، ولكن الأستاذ الباقوري يقول : إنه لن يستطيع منصف أن يقبل القول بالاجماع على هذه الصورة ، ولا هو يستطيع أن يتصور إجماعا بغير أن يكون فيه مثل أبي مسلم الأصفهاني ، فكيف وأبو مسلم ينكر هذا الذي قيل ،
__________________
(١) في ظلال القرآن ١ / ٣٠٢.