وإلى تعارض بعضها مع بعضها الآخر في أحايين كثيرة ، وإذا ما أردنا أن نقدم الدليل على ذلك ، وأخذنا على سبيل المثال قصة تبلبل ألسنة الناجين من الطوفان ، لوجدنا أثر التوراة واضحا فيها ـ إن لم تكن منقولة عنها أو تكاد ـ ذلك أن التوراة حاولت أن تقدم تفسيرا ساذجا غير علمي لاختلاف اللغات والأجناس ، فروت أن الناجين من الطوفان أرادوا أن يبنوا برجا عاليا ، بغية الصعود إلى الله ـ عزوجل ـ في علياء سمائه ، إذ كانوا يحسبون السماء أشبه شيء بلوح زجاجي يعلو على الأرض بضع مئات من الأمتار ، فخشي الله شرهم واحتاط لنفسه فهبط إلي الأرض وبلبل ألسنتهم فتفرقوا شذر مذر ، ومن ثم فقد سميت المدينة «بابل» لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض (١).
ولعل سؤال البداهة الآن : هل عمّ الطوفان الأرض كلها ، أم كان طوفانا خاصا بقوم نوح دون سواهم من العالمين؟
يكاد يتجه غالبية المؤرخين الإسلاميين وعلماء التفسير إلى أن طوفان نوح كان طوفانا عاما ، وأنه أهلك كل من وما على وجه الأرض ، ولم يبق عليها إلا نوح ومن معه ، وإلا عوج بن عنق ، وأن السفينة طافت بالأرض كلها لا تستقر ، حتى أتت الحرم فلم تدخله ، ثم انتهت آخر الأمر إلى الجودي ، فاستوت عليه (٢).
ويحتجون على ذلك بالآيات الكريمة «وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» (٣) ، وقوله تعالى : «قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» (٤) ، وقوله تعالى «وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» (٥). وقوله تعالى : «فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ» (٦) وقول الحبيب المصطفى ، سيدنا ومولانا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «أول رسول أرسل
__________________
(١) تكوين ١١ : ١ ـ ٩ وكذلك كتابنا إسرائيل ص ١١٧ وكذلك J.Gray ,op.cit.,P.٤٠١. وكذلك عصام حفني : المرجع السابق ص ٤٢.
(٢) ابن كثير : البداية والنهاية ص ١٦٣ ، وكذلك ابن الأثير : المرجع السابق ص ٧٢.
(٣) سورة نوح : آية ٢٦ ، ٢٧.
(٤) سورة هود : آية ٤٠.
(٥) سورة الصافات : آية ٧٧.
(٦) سورة الشعراء : آية ١١٩ ، ١٢٠.