حدثنا أن نوحا كان رسولا من رب العالمين ، وأنه قضى من الزمن ما شاء الله له أن يقضي في دعوة قومه إلى عبادة الله الواحد القهار ، وأن الله ـ جل وعلا ـ لم يأت بالطوفان إلا بعد أن تحمل النبي الكريم في دعوته كل صنوف الأذى والاضطهاد ، وإلا بعد أن جرّب نبي الكريم كل سبل الإقناع ، دونما أية نتيجة ، «قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً ، وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً ، ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً» (١) ، وإلا بعد أن يئس النبي الكريم من أن يؤمن به قومه ، فدعا «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» (٢) ، وإلا بعد أن أوحى الله إليه «أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» (٣) ، وهكذا اتبع نبي الله الكريم كل ما يمكن اتباعه تصديقا لقوله تعالى : «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» (٤)
ومنها (ثانيا) أن الناجين من الطوفان في القصة القرآنية ، إنما نجو لأنهم آمنوا بالله العزيز الحكيم ، وصدقوا بدعوة نوح عليهالسلام ، بعكس النصوص الأخرى التي جعلت نجاتهم إنما ترجع إلى أنهم من أهل بطل القصة وذوي قرباه ، ويزيد القرآن الكريم الأمر وضوحا في هذه النقطة بالذات ، فيقص علينا ـ من بين ما يقص من أحداث ـ ما حدث مع ابن نوح ، وكيف كان من الغارقين ، ثم كيف «نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ، قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ، فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ، قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ» (٥). وهكذا يبدو واضحا المبدأ القرآني العظيم «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ، «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» ، «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (٦).
__________________
(١) سورة نوح : آيات ٥ ـ ١٠.
(٢) سورة نوح : آية ٢٦ ، ٢٧.
(٣) سورة هود : آية ٣٦.
(٤) سورة الإسراء : آية ١٥.
(٥) سورة هود : آيات ٤٥ ـ ٤٧.
(٦) سورة الزلزلة : آية ٧ ، ٨.