برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها ، و «ذلك الكتاب» جملة ثانية ، و «لا ريب فيه» ثالثة ، و «هدى للمتقين» رابعة. وفقد العاطف بينها لمجيئها متآخية آخذا بعضها بحجرة بعض ، لأنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقريرا لجهة التحدي ، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان تسجيلا بكماله ، فلا كمال أكمل مما للحق واليقين ، ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله ، ثم في كل من الجمل نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه كما مر في الوجه الثامن ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة أي الكتاب الذي يستأهل أن يقال له الكتاب ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر الذي هو هدى موضع هاد وإيراده منكرا والإيجاز في ذكر المتقين.
البحث الخامس في قوله تعالى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ). الآية وفيه مسائل :
الأولى : «الذين يؤمنون» إما موصول بالمتقين صفة ، أو نصب على المدح ، أو رفع كذلك بتقدير أعني الذين ، أو هم الذين ، أو مرفوع بالابتداء مخبر عنه «بأولئك على هدى».
الثانية : «الذين يؤمنون» على تقدير كونه صفة يكون إما واردا بيانا وكشفا وذلك إذا فسر المتقي بأنه الذي يفعل الحسنات ويجتنب السيئات ، لأن الإيمان أساس الحسنات والصلاة أم العبادات البدنية قال صلىاللهعليهوسلم : «الصلاة عمادة الدين» (١) «وبين العبد وبين الكفر ترك الصلاة» (٢) والزكاة أفضل العبادات المالية قال صلىاللهعليهوسلم : «الزكاة قنطرة الإسلام» فاختصر الكلام اختصارا بذكر ما هو كالعنوان لسائر الطاعات وكالأصول لبواقي الحسنات ويندرج فيها اجتناب الفواحش والمنكرات لقوله عز من قائل (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥] وإما مسرودة مع المتقين مفيدة غير فائدتها وذلك إذا فسر المتقي بالمجتنب عن المعاصي فقط. ثم إنه يكون قد وصف بالإيمان وهو فعل القلب وبأداء الصلاة والزكاة وهما من أفعال الجوارح ، وهذا ترتيب مناسب لأن لوح القلب يجب تخليته عن النقوش الفاسدة أولا ، ثم تحليته بالعقائد الحقة والأخلاق الحميدة ، وإما معدودة عدا على سبيل المدح والثناء وذلك إذا فرض المتقي موسوما بهذه السمات ، مشهورا بهذه
__________________
(١) رواه الترمذي في كتاب الإيمان باب ٨. أحمد في مسنده (٥ / ٢٣١ ، ٢٣٧). بلفظ «.. .. وعموده الصلاة».
(٢) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ١٣٤. أبو داود في كتاب السنّة باب ١٥. الترمذي في كتاب الإيمان باب ٩. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ١٧.