سقته الخمر فسكر ثم أقدم على ذلك الفعل ، وهذا إنما يصح إذا حملت الشجرة على غير الكرمة حتى يكون مأذونا في تناول غيرها ، إلا أنه يرد عليه أن خمر الجنة لا تسكر (لا فِيها غَوْلٌ) [الصافات : ٤٧].
الذاهبون إلى أنه فعله عامدا أربع فرق : منهم من قال : النهي نهي تنزيه لا تحريم وقد سبق. ومنهم من قال : كان عمدا من آدم وكان كبيرة مع أن آدم في ذلك الوقت كان نبيا ، وقد عرفت فساده. ومنهم من قال : فعله عمدا لكن كان معه من أعمال القلب من الإخلاص والوجل والإشفاق ما صيره صغيرة ، وزيف بأن المقدم على ترك الواجب أو فعل المنهي عمدا لا يعذر بدعوى الخوف ، فلا يصح وصف الأنبياء بذلك. ومنهم ـ وهو اختيار أكثر المعتزلة ـ من قال : إنه أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه ، وذلك لا يقتضي كون الذنب كبيرة ، بيان الاجتهاد أنه لما قيل له (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) فلفظ (هذِهِ) قد يشار بها إلى الشخص ، وقد يشار بها إلى النوع كما روي أنه صلىاللهعليهوسلم أخذ حريرا وذهبا بيده وقال «هذان حرامان على ذكور أمتي» (١). وتوضأ ثم قال «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» وأراد نوع الحرير والذهب ، ونوع الوضوء. فمراد الله تعالى من كلمة (هذِهِ) ذلك النوع لا الشخص. وكان آدم ظن أن النهي قد ورد على الشجرة المعينة فتركها ، وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع. واعترض بأن هذا في أصل اللغة للإشارة الشخصية ، وإذا حمل آدم اللفظ على موضوعه فكيف يعد مخطئا؟ وأيضا هب أن لفظ (هذِهِ) متردد بين الشخص والنوع ، فإن كان مع قرينة الإشارة النوعية وقد قصر في معرفتها فيكون مذنبا ، وإن عرفها ومع ذلك أقدم على التناول فكذلك ، وإن لم يكن فيه قرينة فلا يعد مخطئا. وأيضا الأنبياء لا يجوز لهم الاجتهاد لأنهم قادرون على تحصيل اليقين بالوحي ، فالإقدام على الاجتهاد عين المعصية. وأيضا هذه المسألة إن كانت قطعية فالخطأ فيها كبيرة ، وإن كانت من الظنيات فإن قلنا : كل مجتهد مصيب. فلا خطأ ، وإن قلنا المصيب واحد فالمخطىء فيها معذور بالاتفاق. وأجيب بأن لفظ هذا يستعمل في الإشارة النوعية أيضا كما مر ، وبأن آدم لعله قصر في معرفة القرينة أو عرفها ثم نسي لطول المدة ، فلهذا عوتب. وبأن المسألة القطعية لما نسيها صار النسيان عذرا حتى لا يصير الذنب كبيرا ، وقد تكون ظنية وترتب التشديدات على الخطأ فيها لأن
__________________
(١) رواه أبو داود في كتاب اللباس باب ١٠. الترمذي في كتاب اللباس باب ١. النسائي في كتاب الزينة باب ٤٠. ابن ماجه في كتاب اللباس باب ١٩.