الفصاحة من حيث إنها استعارة كما بين في موضعه إلا أن رفع الاشتباه عن المكلفين أهم وأولى. فالفصاحة في هذا المقام ترك الاستعارة ، وليس هذا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة على الإطلاق ، لأن المحتاجين هاهنا إلى البيان ساقطون عن درجة الاعتبار لأن فهم المعنى من اللفظ إنما يعتبر بالنسبة إلى العارف بقوانين العرب واستعمالاتهم لا بالإضافة إلى الأغبياء منهم. نعم التفهيم يعم البليد والذكي والله المستعان. ولا يسبقنّ إلى الوهم أن المشبه بالخيط الأبيض هو الصبح الكاذب المستطيل لأنه يناقض ما ورد في الخبر «لا يغرنكم الفجر المستطيل فكلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير» (١) وإنما المشبه هو الفجر الصادق ، وهو أيضا يبدو دقيقا ولكن يرتفع مستطيرا أي منتشرا في الأفق لا مستطيلا. ويمكن أن يقال : الفصل المشترك بين ما انفجر من الضياء. أي انشق وبين ما هو مظلم بعد يشبه خيطين اتصلا عرضا. فالذي انتهى إليه الضياء خيط أبيض ، والذي ابتدأ منه الظلام خيط أسود. وقد سبق تقرير الصبح في تفسير قوله تعالى (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [البقرة : ١٦٤] فليتذكر. قيل : ويجوز أن تكون «من» في قوله تعالى (مِنَ الْفَجْرِ) للتبعيض لأنه بعض الفجر وأوّله : ولا شك أن «حتى» لانتهاء الغاية فدلت الآية على أن حل المباشرة والأكل والشرب ينتهي عند طلوع الصبح. فاستدل بهذا على جواز صوم من يصبح جنبا. وبقوله (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) على أن الصوم ينتهي عند غروب الشمس ، لأن ما بعد «إلى» لا يدخل فيما قبلها وخاصة إذا لم يكن من جنسه ، بل على حرمة الوصال. ويؤيده ما روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد غربت الشمس وأفطر الصائم (٢) فيجب على المكلف أن يتناول في هذا الوقت شيئا. وكيف لا وقد صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه نهى عن الوصال فقيل : يا رسول الله إنك تواصل. فقال : إني لست مثلكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني. أي من طعام الجنة ، أو إني على ثقة بأني لو احتجت أطعمني من الجنة ، أو إني أعطيت قوة من طعم وشرب. والتحقيق أن استغراقه في مطالعة جلال الله يشغله عن الالتفات إلى ما سواه ، فإذا تناول شيئا قليلا ولو قطرة من الماء فبعد ذلك كان بالخيار في الاستيفاء إلا أن يخاف التقصير في الصوم المستأنف أو في سائر العبادات فيلزم حينئذ أن يتناول بمقدار الحاجة ، وقد يتشبث الحنفي بالآية على جواز النية في نهار صوم رمضان لأن مدة الإمساك هو
__________________
(١) رواه مسلم في كتاب الصيام حديث ٥١. الترمذي في كتاب الصوم باب ١٢ أحمد في مسنده (١ / ٢٥ ، ٤٨).
(٢) رواه مسلم في كتاب الصيام حديث ٤٠ بلفظ «الفجر هو المعترض وليس بالمستطيل».