حتى كاد يتلف. فقال : يا رب إن أحببتني فأتني برزقي الذي قسمت لي وإلا فاقبضني إليك. فألهمه الله تعالى في قلبه : وعزتي وجلالي لا أرزقك حتى تدخل الأمصار وتقيم بين الناس فدخل المدينة وأقام بين ظهراني الناس فجاء هذا بطعام وهذا بشراب فأكل وشرب فأوجس في نفسه من ذلك ، فسمع أردت أن تبطل حكمته بزهدك في الدنيا ، أما علمت أنه يرزق العباد بأيدي العباد أحب إليه من أن يرزقهم بيد القدرة. وقيل : في الآية حذف أي تزودوا لعاجل سفركم وللآجل فإن خير الزاد التقوى واتقون وخافوا عقابي. وفيه تنبيه على كمال عظمته كقوله «أنا أبو النجم وشعري شعري» (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يعني أن قضية العقل تقوى الله ومن لم يتقه فلا لب له في التحقيق. ولما منع الناس عن الجدال اختلج في قلب المكلف شبهة أن التجارة لكونها مفضية في الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها يجب أن تكون منهية. وأيضا أنها كانت محرمة في الجاهلية وقت الحج وأنه أمر غير مستحسن ظاهرا لأن المشتغل بخدمة الله تعالى يجب أن لا يتلوث بالأطماع الدنيوية. وأيضا كان من الممكن أن تقاس التجارة على سائر المباحات من الطيب والمباشرة والاصطياد في كونها محظورة بالإحرام فلدفع هذه الشبهة نزلت.
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا) أي في أن تطلبوا (فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) عطاء منه وتفضلا أو زيادة في الرزق بسبب التجارة والربح بها كقوله (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) [المزمل : ٢٠] عن أبي مسلم : أنه حمل الآية على ما بعد الحج. قال : والتقدير واتقون في كل أفعال الحج ، ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح أن تبتغوا كقوله (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الجمعة : ١٠] وزيف بأن حمل الآية على موضع الشبهة أولى من حملها لا على موضع الشبهة ، ومحل الاشتباه هو التجارة في زمان الحج ، وأما بعد الفراغ فالحل معلوم ، وقياس الحج على الصلاة فاسد ، فإن الصلاة أعمالها متصلة فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها ، وأعمال الحج متفرقة تحتمل التجارة في خلالها. وأيضا الفاء في قوله (فَإِذا أَفَضْتُمْ) ظاهرة في أن هذه الإفاضة حصلت عقيب ابتغاء الفضل وذلك يدل على أن المراد وقوع التجارة في زمان الحج ويؤيده قراءة ابن عباس فضلا من ربكم في مواسم الحج وقال ابن عباس في سبب نزول الآية كانوا يتأثمون أن يتجروا أيام الحج وإذا دخل العشر بالغوا في الكف عن البيع والشراء فلم يقم لهم سوق ، ويسمون من يخرج للتجارة الداج ويقولون : هؤلاء الداج وليسوا بالحاج ومعنى الداج الأعوان والمكارون من الدجيج وهو الدبيب في السير. قال ابن السكيت : لا يطلق الدجيج إلا إذا كان جماعة ولا يقال ذلك للواحد. وقيل : كانت