قال إن العفو هو الزيادة ، فهو أن الغالب أن ذلك إنما يكون فيما يفضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله. وحاصل الأمر يرجع إلى التوسط في الإنفاق والنهي عن التبذير والتقتير. وعن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه كان يحبس لأهله قوت سنة. وقال صلىاللهعليهوسلم : «خير الصدقة ما أبقت غنى ولا يلام على كفاف» (١) وللعلماء في هذا الإنفاق خلاف. فعن أبي مسلم : أنه يجوز أن يكون العفو هو الزكوات ، ذكرها هاهنا مجملة وتفصيلها في السنة ، وقيل : إنه تطوع ولو كان مفروضا لبين مقداره ولم يفوّض إلى رأي المكلف. وقيل : إن هذا كان قبل نزول آية الصدقات ، وكانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ما يكفيهم في عامهم وينفقون ما فضل ثم نسخ بالزكاة. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي كما بين لكم وجوه الإنفاق ومصارفه فهكذا يبين لكم في مستأنف أيامكم جميع ما تحتاجون إليه. (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فتأخذون بما هو أصلح لكم من سلوك سبيل العدالة للإنفاق وغيره ، أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع. ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) أي لتتفكروا في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا حتى لا تختاروا الأدنى على الأعلى. ويجوز أن يتعلق بـ «يبين» أي يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون.
الحكم الخامس : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء : ١٠] عزلوا أموالهم عن أموالهم فنزلت. وعنه عن ابن عباس قال : لما أنزل الله تعالى (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الأنعام : ١٥٢] وقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ) [النساء : ١٠] نطلق من كان عنده مال اليتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، وجعل يحبس له ما يفضل من طعامه حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فنزلت. (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) وهو كلام جامع لمصالح اليتيم والولي. أما لليتيم فلأنه يتضمن صلاح نفسه بالتقويم والتأديب ، وصلاح ماله بالتبقية والتثمير لئلا تأكله النفقة عليه والزكاة منه. وأما الولي فلأن إحراز الثواب خير له من التحرز عن مال اليتيم حتى تختل مصالحه وتفسد معيشته ، وقيل : الخبر عائد إلى الولي يعني إصلاح أموالهم من غير عوض ولا أجرة خير للولي وأعظم أجرا ، وقيل : عائد إلى اليتيم أي مخالطتهم بالإصلاح خير لهم من التفرد عنهم والإعراض عن أمورهم ، والأصوب هو القول الأول ، فإن جهات المصالح مختلفة غير مضبوطة فينبغي أن يكون نظر المتكفل لأمور اليتيم على تحصيل الخير في الدنيا والآخرة
__________________
(١) رواه الدارمي في كتاب الزكاة باب ٢١. بلفظ «خير الصدقة ما تصدق به عن ظهر غنى».