والإنصاف أن الآيات ثلاثة أقسام : أحدها ما يتأكد ظواهرها بالدلائل العقلية فذاك هو المحكم حقا. وثانيها التي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله غير ظاهره. وثالثها الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه فهو المتشابه بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر. لكن هاهنا عقدة أخرى وهي أن الدليل العقلي مختلف فيه أيضا بحسب ما رتبه كل فريق وتخيله صادقا في ظنه مادة وصورة. فكل فريق يدعي بمقتضى فكره أن الدليل العقلي قد قام على ما يوافق مذهبه وتأكد به الظاهر الذي تعلق به ، فلا خلاص من البين إلا بتأييد سماوي ونور إلهي (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٤٠] ثم إنه تعالى بين أن للزائغين غرضين : أحدهما (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) وهي في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه. يقال : فلان مفتون بطلب الدنيا ، والرجل مفتون بابنه وبشعره. فكان التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتونا به عاشقا لا ينقطع عنه تخيله البتة. وقيل : الفتنة في الدين هو الضلال عنه أي طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم. وعن الأصم : إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في البين صار بعضهم مخالفا للبعض في الدين ، وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة. الغرض الثاني (ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي طلب المعنى الذي يرجع إليه اللفظ بحسب ما يشتهونه من غير أن يكون قد وجد له في كتاب الله بيان. قال القاضي أبو بكر : هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما أن يحملوه على غير الحق وهو المراد من قوله (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) والثاني أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه وهو قوله (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) ثم قال عزمن قائل (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) والعلماء اختلفوا في هذا الموضع. منهم من يقف هاهنا ، فعلى هذا لا يعلم المتشابه إلا الله وهو قول ابن عباس وعائشة والحسن ومالك بن أنس والكسائي والفراء ، ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي. ومنهم من لم يجعل الواو في (وَالرَّاسِخُونَ) للابتداء وإنما يجعله للعطف حتى يكون العلم بالمتشابه حاصلا عند الله وعند الراسخين ، لأن وصفهم بالرسوخ في العلم ـ وهو الثبوت والتعمق وبعد الغور فيه ـ يناسب ذلك. وهذا قول مجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين ، وقد يروى عن ابن عباس أيضا. والمختار هو الأول لوجوه منها : ما ذهب إليه كثير من العلماء أن «أما» فيه معنى التفصيل البتة ، وهذا إنما يستقيم لو قدر و «أما الراسخون في العلم فيقولون». ومنها أن اللفظ إذا كان له معنى راجح ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد ، علم أن مراد الله بعض مجازات تلك الحقيقة وفي المجازات كثرة. وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالتراجيح اللغوية الظنية ، ومثل ذلك لا يصح