على أن النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق لأنه جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله ولا يصح ذلك في المستحق إلا على وجه المجاز (وَاللهُ واسِعٌ) كامل القدرة (عَلِيمٌ) بالحكم والمصالح وبمواقع فضله فلهذا (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) والحاصل أنه بين بقوله : (إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) أنه قادر على أن يؤتى بعض عباده مثل ما آتاكم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها ، فإن الزيادة من جنس المزيد عليه. ثم قال : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) والرحمة المضافة إليه تعالى أمر أجل من ذلك الفضل لأنه لا يكون من جنس ما آتاهم بل يكون أشرف وأعظم. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فمن قصر إنعامه وإكرامه على مراتب معينة وعلى أشخاص معينين كان جاهلا بكمال الله تعالى في قدرته وحكمته. ثم إنه تعالى كذبهم في دعواهم الاختصاص بالمناصب العالية فإن فيهم الخيانة المستقبحة في جميع الأديان ونقص العهد والكذب على الله إلى غير ذلك من القبائح فقال : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الآية. فيها دلالة على انقسامهم إلى قسمين : أهل للأمانة وأهل للخيانة. فقيل : إن أهل الأمانة هم الذي أسلموا ، أما الذين بقوا على اليهودية فهم مصرون على الخيانة لأن مذهبهم أنه يحل لهم قتل كل من يخالفهم في الدين وأخذ أموالهم. وقيل : إن أصحاب الأمانة هم النصارى لغلبة الأمانة عليهم ، وأهل الخيانة اليهود لكثرة ذلك فيهم. وقال ابن عباس : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ) هو عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه و (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ) هو فنحاص بن عازورا استودعه رجل من قريش دينارا فجحده وخانه. وقال أهل الحقيقة : هي فيمن يؤتى كثيرا من الدنيا فيخرج عن عهدته بعدم الالتفات إليه وقطع النظر عنه ثقة بالله وتوكلا عليه واكتفاء به ، وفيمن يمتحن بالدنيا فيكون همه مقصورا عليها معرضا عما سواها غير مؤد حقوقها. ويقال : أمنته بكذا وعلى كذا ، فمعنى الباء إلصاق الأمانة بحفظها وحياطتها ، ومعنى «على» استعلاؤها والاستيلاء عليها. والمراد بالقنطار والدينار هاهنا العدد الكثير والعدد القليل فلا حاجة إلى تعيينه. وأما الأقوال فيه فقد مرت في أوائل السورة. وقد يستدل بما روينا عن ابن عباس أن القنطار ألف ومائتا أوقية. ويدخل تحت القنطار والدينار العين والدين ، لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة وعلى المبايعة وعلى المقارضة ، وليس في الآية ما يدل على التعيين لكنه نقل عن ابن عباس أنه محمول على المبايعة فقال : منهم من تبايعه بثمن القنطار فيؤده إليك ، ومنهم من تبايعه بثمن الدينار فلا يؤده إليك. ونقلنا عنه أيضا أنها نزلت في الوديعة. وأما قوله (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) فمنهم من حمله على حقيقته. قال السدي : يعني إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائما على رأسه مجتمعا معه ملازما إياه ، فإن