ينبغي من واجبات الشرع ومندوباته والكف عما لا ينبغي من محرماته ومكروهاته ، فلا جرم أتبعه النوعين زيادة في البيان فقال : (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) واختلفوا في أن كلمة «من» في قوله : (مِنْكُمْ) للتبيين أو للتبعيض. فذهب طائفة إلى أنها للتبيين لأنه ما من مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه ، وكيف لا وقد وصفهم الله تعالى بذلك في قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فهذا كقولك : لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر. وتريد جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم. ثم قالوا : إن ذلك وإن كان واجبا على الكل إلا أنه متى قام به بعض سقط عن الباقين كسائر فروض الكفايات. وقال آخرون : إنها للتبعيض إما لأن في القوم من لا يقدر على الدعوة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنساء والمرضى والعاجزين ، وإما لأن هذا التكليف مختص بالعلماء الذين يعرفون الخير ما هو والمعروف والمنكر ما هما ، ويعلمون كيف يرتب الأمر في إقامتهما ، وكيف يباشر. فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر ، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر ، وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة ، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا. وأيضا قد أجمعنا على أن ذلك واجب على الكفاية ، فكان هذا بالحقيقة إيجابا على البعض الذي يقوم به. ثم إن نصب لذلك رجل تعين عليه بحكم الولاية وهو المحتسب.
واعلم أن الأمر بالمعروف على ثلاثة أضرب : أحدها ما يتعلق بحقوق الله تعالى وهو نوعان : أحدهما ما يؤمر به الجمع دون الأفراد كإقامة الجمعة حيث تجتمع شرائطها ، فإن كانوا عددا يرون انعقاد الجمعة بهم والمحتسب لا يراه فلا يأمرهم بما لا يجوّزه ولا ينهاهم عما يرونه فرضا عليهم ويأمرهم بصلاة العيد. والثاني ما يؤمر به الأفراد كما إذا أخر بعض الناس الصلاة عن الوقت. فإن قال : نسيتها. حثه على المراقبة. ولا يعترض على من أخرها والوقت باق. وثانيها ما يتعلق بحقوق الآدميين وينقسم إلى عام كالبلد إذا تعطل شربه أو انهدم سوره أو طرقه أبناء السبيل المحتاجون وتركوا معونتهم. فإن كان في بيت المال مال لم يؤمر الناس بذلك ، وإن لم يكن أمر ذوو المكنة برعايتها والي خاص كمطل المديون الموسر بالدين. فالمحتسب يأمره بالخروج عنه إذا استعداه رب الدين وليس له الحبس. وثالثها الحقوق المشتركة كأمر الأولياء بإنكاح الأكفاء ، وإلزام النساء أحكام العدد ، وأخذ السادة بحقوق الأرقاء ، وأرباب البهائم بتعهدها وأن لا يستعملوها فيما لا تطيق ، ومن يغير هيئات العبادات كالجهر في الصلاة السرية وبالعكس ، أو يزيد في الأذان يمنعه وينكر عليه ،