العبودية أكثر فسألهم فقالوا : نعبده لأنه إلهنا ونحن عبيده لا لرهبة ولا لرغبة. فقال : أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحققون. قال القاضي : في الآية دليل على أن المقتول ليس بميت وإلا كان قوله : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) عطفا للشيء على نفسه. قلت : لا ، ولكنه عطف الأخص على الأعم. ثم إنه سبحانه لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم ، زاد في الفضل والإحسان بأن مدح الرسول صلىاللهعليهوسلم حين عفا عنهم وترك التغليظ عليهم في انهزامهم. روي أن امرأة عثمان دخلت على النبي صلىاللهعليهوسلم ـ وكان النبي صلىاللهعليهوسلم وعلي يغسلان السلاح ـ فقالت : ما فعل عثمان؟ أما والله لا تجدونه أمام القوم. فقال لها علي : ألا إن عثمان فضح الذمار اليوم. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : مه. وروي أنه قال حينئذ : أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا. ولما دخل عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال : لقد ذهبتم فيها عريضة. وعنه أنه قال : «إنما أنا لكم مثل الوالد لولده ، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها» (١) وقال صلىاللهعليهوسلم : «لا حلم أحب إلى الله من حلم إمام ورفقه ، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه» فلما كان صلىاللهعليهوسلم إمام العالمين وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقا لأن الغرض من البعثة ـ وهو التزام التكاليف ـ لا يتم إلا إذا مالت قلوب الأمة إليه ، وسكنت نفوسهم لديه ، ورأوا فيه آثار الشفقة وأمارات النصيحة. وعن بعض الصحابة أنه قال : لقد أحسن الله إلينا كل الإحسان. كنا مشركين فلو جاءنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا فما كنا ندخل في الإسلام ، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة ، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الإيمان قبلنا ما وراءها ، كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم هذا الدين وكملت هذه الشريعة.
واعلم أن من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ، فإنه يعلم أن الحوادث الأرضية كلها مستندة إلى الأسباب الإلهية ، فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر ، فلا جرم إذا فاته مطلوب له لم يغضب ، وإذا حصل له مطلوب لم يأنس به لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات ، فلا ينازع أحدا في هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها ، ولا يغضب على شيء بسبب فوات شيء من مطالبها ، فيكون حسن الخلق طيب العشرة مع الخلق. ولما كان صلىاللهعليهوسلم أكمل البشر في القوتين النظرية والعملية وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق ، وجب أن يكون أكمل الناس خلقا وذلك من فضل الله ورحمته على الناس
__________________
(١) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب ٤. النسائي في كتاب الطهارة باب ٣٥. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ١٦. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٧ ، ٢٥٠).