تصير معرفته بالله ضرورية كما لأهل الآخرة ، وحينئذ يسقط التكليف عنه إذ لم يبق في يده زمام الاختيار ، وأفضى الأمر إلى حد الإلجاء والإجبار. وهاهنا بحث للأشاعرة وهو أن أهل القيامة لا يشاهدون إلا أنهم صاروا أحياء بعد أن كانوا أمواتا ، ويشاهدون أيضا أهوال القيامة فيستدلون بها على وجود الفاعل ، فكيف يكون ذلك العلم ضروريا؟ وبتقدير كونه ضروريا فلم يمنع ذلك صحة التكليف؟ وذلك أن العبد مع علمه الضروري بوجود الإله المثيب المعاقب قد يقدم على المعصية لعلمه بأنه كريم وأنه لا تنفعه طاعة العبد ولا يضره ذنبه. وأيضا العلم النظري هو الذي لا يكون معه تجويز نقيضه ، وعلى هذا فلا فرق بينه وبين الضروري البتة ، وعلى هذا فكيف يصير النظري موجبا للتكليف ، والضروري مانعا من التكليف؟ فثبت ضعف هذا الفرق ، وأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فهو بفضله وعد وقبل التوبة في بعض الأوقات ، وبعد له أخبر عن عدم قبول التوبة في وقت آخر ، وله أن يقلب الأمر فيجعل المقبول مردودا والمردود مقبولا (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣] وأقول : التحقيق فيه أنه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء ، وقوله صدق وأمره حق ، وقد عين لعبيده حالين : دنيا وعقبى. وقد أخبر أنه جعل الدنيا دار العمل ، والعقبى دار الجزاء ، وليس لأحد عليه اعتراض أنه لم لم يعكس الأمر. ثم إن لليقين مراتب : علم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين. وليس ببعيد أن لا يكون علم اليقين منافيا للتكليف ، ويكون عين اليقين منافيا له. ثم عطف قوله : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ) على (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) تسوية بين الذين سوّفوا توبتهم إلى حضرة الموت ، وبين الذين ماتوا على الكفر في أنه لا توبة لهم لأن حضرة الموت أوّل أحوال الآخرة. فكما إن المائت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين ، فكذلك المسوّف إلى حضرة الموت لمجاوزة كل منهما الحد المضروب للتوبة. أو المعنى أنه كما أن التوبة عن المعاصي لا تقبل عند القرب من الموت ، كذلك الإيمان لا يقبل عند القرب من الموت ، أو المراد أن الكفار إذا ماتوا على الكفر فلو تابوا في الآخرة لا تقبل توبتهم. (أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ) أي أعددنا الوعيد نظير قوله : (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة. قالت الوعيدية : المعطوف مغاير للمعطوف عليه. لكن الطائفة الثانية كفار فالأوّلون فساق لكنهما مشتركان في العذاب الأليم ، فثبت أن حكمهما واحد. وأجيب بأن (أُولئِكَ) إشارة إلى أقرب المذكورين ، ويعضده أن الكفار أشنع قولا من الفساق ، أو الطائفة الأولى هم الذين عاشوا على الكفر ثم تابوا في حضرة الموت كفرعون ، والثانية هم الذين عاشوا على الكفر وماتوا عليه كنمروذ مثلا.