الرد إذا لم يصر مقابلا بالأحسن ، فإذا لم يثبت الوجوب فلا أقل من الجواز ، وقال الشافعي : هذا الأمر محمول على الندب بدليل أنه لو أثيب بما هو أقل منه سقطت مكنة الرد بالإجماع مع أن ظاهر الآية يقتضي أن يثاب بالأحسن. ثم احتج الشافعي على قوله بما روي عن ابن عباس وابن عمر أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلّا الوالد فيما يعطي ولده» (١) (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) فيحاسبكم على محافظة حقوق التحية وغيرها ، فكونوا على حذر من مخالفته. ثم أكد الوعيد بقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ) فالأول توحيد والثاني عدل كأنه تعالى يقول : من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا اله إلّا هو ، وإنما تنكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة الذي يجمع فيه الأولون والآخرون للجزاء والحساب. وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إما خبر المبتدأ وإما اعتراض والخبر : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) والتقدير الله والله ليجمعنكم إلى يوم القيامة أي ليضمنكم إليه ويجمعن بينكم وبينه بأن يبعثكم فيه ، والقيامة والقيام كالطلابة والطلاب وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب. قال تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين : ٦] (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) استفهام على سبيل الإنكار ، وذلك أن الصدق من صفات الكمال والكمال للواجب أولى وأحق وأقدم وأتم من غيره ، والمعتزلة نفوا عنه الكذب بناء على أنه قبيح ، ومن كذب لم يكذب إلّا لأنه محتاج إلى أن يكذب لجر منفعة أو دفع مضرة ، أو هو غني عنه إلّا أنه يجهل غناه أو هو جاهل بقبحه ، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في إخباره ولا يبالي بأيهما نطق ، وربما كان الكذب أحلى على حنكه من الصدق ، وكل هذه الأمور من الحكيم قبيح يجب تنزيهه عنها ، واعلم أن المسائل الأصولية قسمان منها ما العلم بصحة النبوة يحتاج إلى العلم بصحته كعلمنا بافتقار العالم إلى صانع عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات ، فهذا القسم يمتنع إثباته بالقرآن والخبر وإلّا وقع الدور. ومنها غير ذلك كإثبات الحشر والنشر فإنه يمكن إثباته بالقرآن والحديث فاعلم.
ثم عاد إلى حكاية أحوال المنافقين فقال : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) وهو منصوب على الحال والعامل معنوي مثل : ما لك قائما أي ما تصنع؟ وقيل : نصب على أنه خبر «كان» أي ما لكم كنتم في شأن المنافقين فئتين؟ استفهام على سبيل الإنكار أي لا تختلفوا في كفرهم ولكن اقطعوا بنفاقهم فقد ظهرت دلائل ذلك وانكشفت جلية الحال.
__________________
(١) رواه البخاري في كتاب الهبة باب ٣٠. النسائي في كتاب الهبة باب ١. ابن ماجه في كتاب الهبات باب ٢. أحمد في مسنده (٢ / ١٨٢).