يئسوا من أن يحللوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله تعالى محرمة أو يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم لأنه حقق وعده بإظهار هذا الدين على سائر الأديان (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) أخلصوا إلى الخشية. قيل : في الآية دليل على أن التقية جائزة عند الخوف لأنه علل إظهار هذه الشرائع بزوال الخوف من الكفار. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) سئل هاهنا إنه يلزم منه أن الدين كان ناقصا قبل ذلك ، وكيف يجوز أن يكون النبي صلىاللهعليهوسلم مواظبا على الدين الناقص أكثر عمره؟ وأجيب بأنه كقول الملك إذا استولى على عدوه : اليوم كمل ملكنا. وزيف بأنّ السؤال بعد باق لأنّ ملك ذلك الملك لا بد أن يكون قبل قهر العدوّ ناقصا. وقيل : المراد إني أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكاليفكم من تعليم الحلال والحرام وقوانين القياس وأصول الاجتهاد ، وضعف بأنه يلزم أن لا يكمل لهم قبل ذلك اليوم ما كانوا محتاجين إليه من الشرائع ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز. والمختار في الجواب أن الدين كان أبدا كاملا بمعنى أنّ الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت ـ ناسخة أو منسوخة أو مجملة أو مبينة أو غير ذلك ـ كافية بحسب ذلك الوقت وفي آخر زمان البعثة حكم ببقاء الأحكام على حالها من غير نسخ وزيادة ونقص إلى يوم القيامة. قال نفاة القياس : إكمال الدين أن يكون حكم كل واقعة منصوصا عليه فلا فائدة في القياس. وأجيب بأن إكماله هو جعل النصوص بحيث يمكن استنباط أحكام نظائرها منها. قالوا : تمكين كل أحد أن يحكم بما غلب على ظنه لا يكون إكمالا للدين وإنما يكون إلقاء للناس في ورطة الظنون والأوهام. وأجيب بأنه إذا كان تكليف كل مجتهد أن يعمل بمقتضى ظنه كان كل مجتهد قاطعا بأنه عامل بحكم الله. روي أنه لما نزلت الآية على النبي صلىاللهعليهوسلم فرح الصحابة وأظهروا السرور إلّا أكابرهم كأبي بكر الصدّيق وغيره فإنهم حزنوا وقالوا : ليس بعد الكمال إلّا الزوال. وكان كما ظنوا فإنه لم يعمر بعدها إلّا أحدا وثمانين يوما أو اثنين وثمانين يوما ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا نقص. قال العلماء : كان ذلك جاريا مجرى إخبار النبي صلىاللهعليهوسلم عن قرب وفاته وذلك إخبار بالغيب فيكون معجزا. واحتجت الأشاعرة بالآية على أن الدين ـ سواء قيل إنه العمل أو المعرفة أو مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل ـ لا يحصل إلّا بخلق الله وإيجاده فإنه لن يكون إكمال الدين منه إلّا وأصله منه. والمعتزلة حملوا ذلك على إكمال بيان الدين وإظهار الشرائع. ثم قال : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أي بذلك الإكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام ، أو نعمتي بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين (وَرَضِيتُ) أي اخترت (لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) نصب على الحال أو مفعول ثان إن ضمن رضيت معنى صيرت. واعلم أن قوله : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) إلى هاهنا اعتراض أكد به معنى التحريم لأنّ تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة واختيار دين الإسلام للناس