فجازاهم الله تعالى بقوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) وهو الدعاء عليهم بالبخل والنكد ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم ، دعا به عليهم تعليما لعباده كما علمهم الاستثناء في قوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٩] وكما علمهم الدعاء على المنافقين في قوله : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) [البقرة : ١٠] وعلى أبي لهب في قوله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) [المسد : ١] ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة أو إخبارا. قال الحسن : يغللون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم فيكون الطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز. وإنما لم يقل فغلت أيديهم مع أن الجزاء يناسب فاء التعقيب ليكون قوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) كالكلام المبتدأ به فيزيده قوة ووثاقة لأن الابتداء بالشيء يدل على شدة الاهتمام به وقوة الاعتناء بتقريره. (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) قال الحسن : عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار. ومما وقع في عصرنا من إعجاز القرآن ما حكي أن متغلب من اليهود مسمى بسعد الدولة وهو من أشقي الناس كان قد سمع بهذه الآية ، فاتفق أن وصل إلى بغداد فنزل بالمدرسة المستنصرية ودعا بمصحف كان مكتوبا بأحسن خط وأشهره من خطوط الكتاب الماضين ، وكان يعلم أن أهل هذا العصر لا يقدرون على كتابة مثله ثم قال : أين هذه الآية يعني قوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) فأروه إياها فمحاها ، فلم يمض أسبوع إلّا وقد سخط السلطان عليه فبعث في طلبه وأمر بغل يديه فغلوه وحملوه إليه فأمر بقتله. ثم إنه سبحانه ردّ على اليهود بقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) واليد في اللغة تطلق على الجارحة المخصوصة ـ وهو ظاهر ـ وعلى النعمة. يقال : لفلان عندي يد أشكرها له. وعلى القوة مثل : (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) [ص : ٤٥] فسر بذوي القوى والعقول ومنه لا يدين له بهذا. والمعنى سلب كمال القدرة. وعلى الملك تقول : هذا بيد فلان أي ملكه قال تعالى : (بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) [البقرة : ٢٣٧] وقد يراد به شدة العناية قال : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] ويقال : يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمنت له شيئا. ولا شك أن اليد بمعنى الجارحة في حقه تعالى محال للدليل الدال على أنه ليس بجسم ولا ذي أجزاء خلافا للمجسمة ، وأما سائر المعاني فلا بأس بها. وكان طريقة السلف الإيمان بها وأنها من عند الله ثم تفويض معرفتها إلى الله. وقد جاء في بعض أقوال أبي الحسن الأشعري أن اليد صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء لقوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] والمراد تخصيص آدم بهذا التشريف ونص القرآن ناطق بإثبات اليد تارة : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ١٠]. وبإثبات اليدين أخرى كما في الآية ، وبإثبات الأيدي أخرى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) [يس : ٧١] ووجه التوحيد والجمع ظاهر. وأما وجه التثنية فذلك أن من أعطى بيديه فقد أعطى على أكمل الوجوه فكان أبلغ في رد كلام القوم خذلهم الله ، أو