والحاصل أنه جمع لهم بين الأمرين الإيلام والإهانة (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) يعني أن هذا العذاب الشديد إنما حصل بمجموع الأمرين : الافتراء على الله والتكبر على آيات الله وهو عدم الإيمان بها. قال الواحدي (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) أي لا تصلون له لقوله صلىاللهعليهوسلم «من سجد لله سجدة واحدة بنية صادقة فقد برىء من الكبر».
(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا) يحتمل أن يكون معطوفا على قول الملائكة (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) ثم الملائكة إما الملائكة الموكلون بقبض أرواحهم ، وإما الملائكة الموكلون بعذابهم ، ويحتمل أن يكون القائل هو الله تعالى إن جوزنا أنه يتكلم مع الكفار (فُرادى) جمع ينون ولا ينوّن واحده. قيل : فرد على غير قياس. وقيل : فردان كسكارى وسكران قاله ابن قتيبة. وقيل : فريد كرديف وردا في وهم الحداة والأعوان لأنه إذا أعيا أحدهم خلفه الآخر (كَما خَلَقْناكُمْ) أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد ، أو مجيئا مثل خلقنا لكم. (أَوَّلَ مَرَّةٍ) والمراد التوبيخ والتقريع لأنهم بذلوا جهدهم وصرفوا كدهم في الدنيا إلى تحصيل أمرين : أحدهما المال والجاه ، والثاني أنهم عبدوا الأصنام وجعلوها شركاء لله فيهم فقلبوا القضية وتركوا الحقيقة ، وذلك أن النفس الإنسانية إنما تعلقت بالجسد ليكون البدن آلة لها في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة ، فإذا فارقت البدن ولم يحصل لها هذان المطلبان عظم خسرانها وطال حرمانها فاستحق التوبيخ بقوله (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) أي منفردين عما يجب من الأعمال والعقائد. ثم إنها مع ذلك اكتسبت أشياء قد علق الرجاء بها لأنه أفنى العمر في تحصيلها وأنها ليست مما يبقى معها فلا جرم استحق التقريع بقوله (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) أي أعطينا وتفضلنا به عليكم (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) يعني أنها كالشيء الذي يبقى وراء ظهر الإنسان فلن يمكنه الانتفاع به وربما بقي معوج الرأس بسبب التفاته إليه (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) أي ليسوا معكم حتى يروا ، أو ليسوا معكم بالشفاعة والنصرة كما زعمتم بدليل قوله (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) الآية. من قرأ بالنصب على الظرف فمعناه وقع التقطع بينكم كقوله (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) [البقرة : ١٦٦] يقال : جمع بين الشيئين أي وقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره. وقيل : المراد لقد تقطع وصلكم بينكم كقولهم إذا كان غدا فأتني أي إذا كان الرجاء أو البلاء غدا فأتني فأضمر لدلالة الحال ، ومن قرأ بالرفع فلأنه أسند الفعل إلى الظرف اتساعا كما تقول : قوتل خلفكم وأمامكم ، أو لأن المراد بالبين الوصل وإنما حسن استعماله في معنى الوصلة مع أن أصله الافتراق والتباين لأنه يستعمل في الشيئين اللذين بينهما مشاركة ومواصلة من بعض الوجوه