يعودون إليه. وليوصينّ ابنه محمد بن الحنيفية يوم الجمل بما يجعله بطلا مرهوبا في ساحات القتال : «تزول الجبال ولا تزول ، عض على ناجذك ، أعر الله جمجمتك ، تِد في الأرض قدمك. ارم ببصرك أقصى القوم ، وغض بصرك ، واعلم أن النصر من عند الله سبحانه».
وبأمر الحرب تتصل السياسة ، فإن بينهما لعلاقة وثقى ، ومن الظلم لشخصية علي أن نتصوره غير متتبع تيارات السياسة في عصره. فقد كان ثاقب الفكر ، راجح العقل ، بصيرا بمرامي الأمور ، وقد أثرت عنه مواقف وأقوال وتصرفات تقوم دليلا على سياسته الحكيمة ، وقيادته الرشيدة ، لكن مثله العليا تحكمت في حياته ، فحالت دون تقبله للواقع ورضاه بأنصاف الحلول ، بينما تجسدت تلك الواقعية في خلفه معاوية ، وكانت قبل متجسدة على سمو ونبل في الخليفة العظيم عمر بن الخطاب.
ومن يرجع إلى «نهج البلاغة» يجد فيه عشرات الحطب ـ مثلما تصح «نماذج» للشكوى والتقريع والنقد ـ تعطي صورة واضحة عن نظراته الثاقبة وآرائه البعيدة في مبادئ السياسة ، وأساليب حكم الرعية ، وإدارة شؤونها ، والحرص على دفع الفن عنها ، حتى تعيش في بحبوحة العز والرخاء.
ولكي تتدبر هذا الأمر ، ما عليك إلا أن تقرأ خطبه لدى بيعته وإعلانه منهاجه في الحكم ، أو تستعبد مواقفه من السيدة عائشة أم المؤمنين. ووساطاته بين عثمان والثائرين عليه ، وصبره الجميل في معالجة أمر معاوية وأهل الشام ، وطول أناته في تفهم آراء شيعته ، ومناظرته الخوارج قبل أن يخوض معهم ساحة القتال.
استمع إليه عليهالسلام يضبط نفسه عن الانفعال ، ويدحض الباطل بحجاج منطقي وأسلوب يفحم المكابر ، حين يقول للخوارج : «فلما أبيتم إلا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ، وأن يميتا ما أمات القرآن ، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكما يحكم بما في القرآن ، وإن أبيا فنحن من حكمهما براء» ، أو يقول لرجل وفد عليه من قبل أهل البصرة : «أرأيت لو أن الذين وراءك بعثوك رائدا تبتغي لهم مساقط الغيث ، فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلإ والماء ، فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ما كنت صانعا؟ قال : كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلإ والماء. فقال له الإمام : «فامدد إذا يدك» ، وإذا ، الرجل يقول : «فوالله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة علي ، فبايعته».