وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا وفصلته فصولا ، فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه عليهالسلام ، من الكلام القصير ، في المواعظ والحكم والأمثال والآداب ، دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة ، فاستحسن جماعة من الأصدقاء ، ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره ، معجبين ببدائعه ومتعجبين من نواصعه (١) ، وسألوني عند ذلك أن أبتدئ بتأليف كتاب ، يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام ، في جميع فنونه ومتشعبات غصونه ، من خطب وكتب ومواعظ وأدب ، علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة ، وغرائب الفصاحة وجواهر العربية ، وثواقب (٢) الكلم الدينية والدنيوية ، ما لا يوجد مجتمعا في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب ، إذ كان أمير المؤمنين عليهالسلام مشرع الفصاحة وموردها (٣) ، ومنشأ البلاغة ومولدها ، ومنه عليهالسلام ظهر مكنونها ، وعنه أخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب (٤) ، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا وتقدم وتأخروا ، لأن كلامه عليهالسلام الكلام ، الذي عليه مسحة (٥) من العلم الإلهي ، وفيه عبقة (٦) من الكلام النبوي فأجبتهم إلى الابتداء بذلك ، عالما بما فيه من عظيم النفع ، ومنشور الذكر ومذخور الأجر ، واعتمدت به (٧) أن أبين عن عظيم قدر أمير المؤمنين عليهالسلام ، في هذه الفضيلة ، مضافة إلى المحاسن الدثرة (٨) والفضائل الجمة ، وأنه عليهالسلام انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين ، الذين إنما يؤثر (٩) عنهم منها القليل النادر ، والشاذ الشارد (١٠) ، فأما كلامه فهو البحر الذي لا يساجل (١١) ، والجم الذي لا يحافل (١٢).
_____________________
(١) البدائع جمع بديعة وهي الفعل على غير مثال ، ثم صار يستعمل في الفعل الحسن وإن سبق إليه مبالغة في حسنة ، والنواصع جمع ناصعة ، والنواصع : الخالصة ، وناصع كل شيء خالصه.
(٢) الثواقب : المضيئة ، ومنه الشهاب الثاقب. ومن الكلم ما يضيء لسامعها طريق الوصول إلى ما دلت عليه فيهتدي بها إليه.
(٣) المشرع : تذكير المشرعة ، وهو المورد.
(٤) حذا كل قائل : اقتفى واتبع.
(٥) عليه مسحة : أثر أو علامة. وكأنه يريد «بهاء منه وضياء»
(٦) العبقة : الرائحة اللاصقة بالشيء والمنتشرة عنه.
(٧) اعتمدت : قصدت.
(٨) الدثرة بفتح فكسر : الكثيرة وكذلك الحمة.
(٩) يؤثر : أي ينقل عنهم ويحكى.
(١٠) الشاذ الشارد : المنفرد الذي ليس له أمثال.
(١١) لا يساجل : لا يغالب في الامتلاء وكثرة الماء.
(١٢) لا يحافل : لا يغالب في الكثرة ، من قولهم : ضرع حافل : ممتلئ كثير اللبن. والمراد أن كلامه لا يقابل لكلام غيره لكثرة فضائله.