به ينطف (١) دما ويقطر مهجا (٢) ، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد وبدل الأبدال (٣) ، وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه اللطيفة ، التي جمع بها بين الأضداد وألف بين الأشتات (٤) ، وكثيرا ما أذاكر الإخوان بها وأستخرج عجبهم منها ، وهي موضع للعبرة بها والفكرة فيها.
وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد ، والمعنى المكرر ، والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف ، اختلافا شديدا ، فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه ، ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى ، موضوعا غير موضعه الأول ، إما بزيادة مختارة أو بلفظ أحسن عبارة ، فتقتضي الحال أن يعاد استظهارا للاختيار ، وغيرة على عقائل الكلام (٥) ، وربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا ، فأعيد بعضه سهوا أو نسيانا لا قصدا واعتمادا.
ولا أدعي مع ذلك أني أحيط بأقطار (٦) جميع كلامه عليهالسلام ، حتى لا يشذ عني منه شاذ ولا يند ناد (٧) ، بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي ، والحاصل في ربقتي (٨) دون الخارج من يدي ، وما علي إلا بذل الجهد وبلاغة الوسع ، وعلى الله سبحانه وتعالى نهج السبيل (٩) وإرشاد الدليل ، إن شاء الله.
ورأيت من بعد تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة ، إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها ويقرب عليه طلابها ، فيه حاجة العالم والمتعلم وبغية البليغ والزاهد ، ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل ، وتنزيه الله سبحانه وتعالى عن شبه الخلق ، ما هو بلال كل غلة (١٠) وشفاء كل علة ، وجلاء كل شبهة.
ومن الله سبحانه أستمد التوفيق والعصمة ، وأتنجز التسديد والمعونة ، وأستعيذه من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان ، ومن زلة الكلم قبل زلة القدم (١١) ، وهو حسبي ونعم الوكيل.
___________________
(١) ينطف : من نطف كنصر وضرب ، نطفاً وتنطافاً : سال.
(٢) المهج : جمع مهجة ، وهي : دم القلب ، والروح.
(٣) الأبدال قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم ، مات منهم واحد بدل الله مكانه آخر. والواحد بدل بديل.
(٤) الأشتات : جمع شتيت : ما تفرق من الأشياء.
(٥) عقائل الكلام : كرائمه. وعقيلة الحي : كريمة.
(٦) أقطار الكلام : كرائمه. وعقيلة الحي : كريمته.
(٧) الناد : المنفرد الشاذ.
(٨) الربقة : عروة حبل يجعل فيها رأس البهيمة.
(٩) نهج السبيل : إبانته وإيضاحه.
(١٠) الغلة : العطش ، وبلالها : ما تبل به وتروى.
(١١) زلة الكلم : الخطأ في القول ، وزلة القدم ، خطأ الطريق والانحراف عنه.