والقابلية حتى تنتهي إلى الأفلاك والعناصر ، وأما الذي بعده فكالقوى المعينة على الجذب والإمساك والهضم والدفع وكالأعضاء الحاملة لتلك القوى وكسائر الأمور النافعة في ذلك الباب خارجة من البدن أو داخلة فيه ، فإنها لا تكاد تنحصر. وإذا كانت نعم الله تعالى في تناول لقمة واحدة تبلغ هذا المبلغ فكيف فيما جاوز ذلك؟ هذا إذا كنت في عالم الأجساد ، فإذا تخطيت إلى عالم الأرواح وأجلت طرف عقلك في ميادين القدس وحظائر الأنس وصادفت بعض ما هنالك من الكرامات واللذات فلعلك تعرف حق النعمة إذ تغرق في لجة المنة أو تغرف من نهر المنحة والنعم هنالك على وفق الاستعداد وإدراك النعم بمقدار الفهم والرشاد ، فإن كنت أهلا لها فذاك وإلا فلا تلم إلا نفسك (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي هذا الجنس (لَظَلُومٌ) يظلم النعمة بإغفال شكرها (كَفَّارٌ) شديد الكفران لها وذلك أنه مجبول على النسيان والملالة فلا بد أن يقع في إغفال شكر النعمة إن نسيها ، أو في كفران النعمة إذا ملها. وقيل : ظلوم في الشدائد بالشكاية والجزع كفار في السعة يجمع ويمنع. واعلم أنه ختم الآية في هذه السورة بما ختم وختمها في النحل بقوله : (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وكأنه قال : إن كنت ظلوما فأنا غفور ، وإن كنت كفارا فأنا رحيم فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ، ولا أجازي جفاك إلا بالوفاء ، تلك صفتك في الأخذ وهذه صفتي في الإعطاء.
التأويل : (وَبَرَزُوا) من القشور الفانية (لِلَّهِ جَمِيعاً) من القويّ والضعيف (فَقالَ الضُّعَفاءُ) وهم المقلدة (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) من المبتدعين إني كفرت بما أشركتموني آمن اللعين حين لا ينفع نفسا إيمانها (وَأُدْخِلَ) فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا خلى وطباعه لا يدخل الجنة لأنه خلق ظلوما جهولا سفلي الطبع ، وإنما يدخله الله بفضله وعنايته (جَنَّاتٍ) القلوب (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أنهار الحكمة (خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بعنايته وإلا لم يبق فيها ساعة كما لم يبق آدم. تحية أهل القلوب على أهل القلوب لسلامة قلوبهم ، وتحيتهم على أهل النفوس لمرض قلوبهم ليسلموا من شر نفوسهم (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تشاهد بنور النبوّة (كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) للاستعداد الإنساني القابل للفيض الإلهي دون سائر مخلوقاته (كَلِمَةً طَيِّبَةً) هي كلمة التوحيد (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) عن لوث الحدوث مثمرة إثمار شواهد أنوار القدم (أَصْلُها ثابِتٌ) في الحضرة الإلهية فإنها صفة قائمة بذاتها (وَفَرْعُها) في سماء القلوب (تُؤْتِي أُكُلَها) من أنوار المشاهدات والمكاشفات (كُلَّ حِينٍ) يتقرب العبد إلى ربه يتقرب الرب تعالى إليه (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) لمن نسي العهد الأوّل (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) الحالة الأولى فيسعون في إدراكها (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ) تتولد من خباثة النفس