أحدث في حلمة الثدي ثقوبا صغيرة يخرج اللبن الخالص منها وقت المص أو الحلب فهي بمنزلة المصفاة للبن يخرج اللطيف منها ويبقى الكثيف ، فبهذا الطريق يصير خالصا سائغا للشاربين أي سهل المرور في الحلق حتى قيل إنه لم يقص أحد باللبن قط. ومن عجائب حال اللبن اجتماعه من أجسام مختلفة الطبائع مع أنها واحدة في الحس. فمنها الدهن وهو حار رطب ، ومنها الأجزاء المائية وهي باردة رطبة ، ومنها الجبن وهو بارد يابس وكلها حاصلة من عشب واحد. ثم إنه تعالى ألهم الطفل الصغير مص الثدي عند انفصاله من الأم وكل ذلك دليل على عناية كاملة ورحمة شاملة وعلم تام وقدرة باهرة. قال المحققون : في تقليب العشب في هذه الأطوار إلى أن يصير لبنا خالصا سائغا دليل على أنه تعالى قادر على تقليب الإنسان في أطواره إلى أن يصير مستعدا للبقاء الأبدي واللقاء السرمدي. قال جار الله : و «من» في (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) للتبعيض و «من» في قوله : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ) لابتداء الغاية فهو صلة لـ (نُسْقِيكُمْ) كقولك : «سقيته من الحوض». وجوز أن يكون حالا من قوله : (لَبَناً) مقدما عليه فيتعلق بمحذوف أي كائنا من بين كذا وكذا. وإنما قدم لأنه موضع العبرة فهو جدير بالتقديم. قالت الشافعية : ليس بمستنكر أن يسلك المني مسلك البول وهو طاهر كما أنه يخرج اللبن من بين الفرث والدم طاهرا.
وأما قوله : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) فإما أن يتعلق بمحذوف أي ونسقيكم من ثمرات النخيل ومن الأعناب إذا عصرت وحذف لدلالة ما تقدم عليه فيكون قوله : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ) بيانا وكشفا عن كنه حقيقة الاستقاء ، وإما أن يتعلق بـ (تَتَّخِذُونَ) فيكون قوله : (مِنْهُ) تكريرا للظرف لأجل التأكيد نظيره قولك : «زيد في الدار فيها» وإنما ذكر الضمير في (مِنْهُ) لأنه يعود إلى المذكور أو إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير كأنه قيل : ومن عصير ثمرات النخيل ومن عصير الأعناب تتخذون منه ، واحتمل أن يكون (تَتَّخِذُونَ) صفة موصوف محذوف كقوله : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] أي وما منا إلا ملك فالتقدير : ومن ثمرات النخيل ومن الأعناب ثمر. (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) لأنهم يأكلون بعضها ويتخذون من بعضها السكر وهو الخمر سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا نحو رشد رشدا ورشدا. وعلى هذا التفسير ففي الآية قولان : أحدهما ـ ويروى عن الشعبي والنخعي ـ أنها منسوخة فإن السورة مكية وتحريم الخمر نزل في المائدة وهي مدنية ، وثانيهما أنها جامعة بين العتاب والمنة. وذكر المنفعة لا ينافي الحرمة على أن في الآية تنبيها على الحرمة أيضا لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر ، فوجب في السكر أن لا يكون رزقا حسنا لا بحسب الشهوة بل بحسب