فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره. ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها كقولهم (هؤُلاءِ أَضَلُّونا) [الأعراف : ٣٨] (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ونحو ذلك. عن بعضهم : تزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه يقول : يا رب نفسي حتى إن إبراهيم الخليل صلىاللهعليهوسلم يفعل ذلك.
ثم أوعد الكفار بآفات الدنيا أيضا فقال : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) يحتمل أن تكون مقدرة وأن تكون معينة موجودة إما مكة أو غيرها. وذهب كثير من المفسرين إلى أنها مكة والأقرب أنها غيرها لأن مثل مكة يكون غير مكة فضربها الله مثلا لمكة إنذارا من مثل عاقبتها. قال العقلاء : ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن والصحة والكفاية. فوصف الله تعالى تلك القرية بالأمن ثم بالاطمئنان إشارة إلى أن هواء ذلك البلد لاعتداله ملائم لأمزجة أهله حتى اطمأنوا واستقروا ولم يحوجوا إلى الانتقال طلبا للصحة. ثم قال : (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) دلالة على حصول الكفاف لهم بأيسر وجه. قال في الكشاف : الأنعم جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع ، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس. قلت : لعله حمله على ذلك طلب الضبط وإلا فلا حاجة إلى هذا التكلف. وكذا أطلق الأكثرون أن جمع «فعلة» يجيء على «أفعل». قيل : إنما ذكر جمع القلة تنبيها بالأدنى على الأعلى ، يعني أن كفران النعمة القليلة يوجب العذاب فكيف بكفران النعم الكثيرة العظيمة. وهذا مثل لأهل مكة كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة ـ وهو محمد صلىاللهعليهوسلم ـ فكفروا بها وبالغوا في إيذائه فسلط الله عليهم البلاء. عذبهم بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والفرو ، وكان النبي صلىاللهعليهوسلم يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم. نقل أن ابن الراوندي قال لابن الأعرابي الأديب : هل يذاق اللباس؟ قال ابن الأعرابي : لا بأس أيها النسناس هب أن محمدا صلىاللهعليهوسلم ما كان نبيا أما كان عربيا؟! كأنه طعن في الآية أن المناسب هو أن لو قيل : «فكساها الله لباس الجوع» أو «فأذاقها الله طعم الجوع» فردّ عليه ابن الأعرابي. والذي أجاب به علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة ، وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس ، ثم ذكر الوصف ملائما للمستعار له وهو الجوع والخوف ، لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه غيره. فكانت الاستعارة مجردة. ولو قال : «فكساها» كانت مرشحة ، وقد سلف منا تقرير هذا الاصطلاح في المقدمة التاسعة من مقدمات الكتاب. وترشيح الاستعارة وإن كان مستحسنا من جهة المبالغة إلا أن للتجريد