أعجب إليّ لأن تفسيره بيناه وليس للتشديد معنى إلا أنه نزل متفرقا. فالفرق يتضمن التبين ويؤكده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال : فرقت أفرق بين الكلام وفرقت بين الأجسام. وأقول : إن ابن عباس اعتبر الفصل بين أول نزوله وبين آخره ، فرأى التشديد أولى. ولعل المراد الفصول المتقاربة التي فيما بين المدة بدليل قوله : (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) بضم الميم أي على مهل وتؤدة ولقوله : (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) أي على حسب المصالح والحوادث.
ثم خاطب نبيه صلىاللهعليهوسلم بأن يقول للمقترحين (آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) وهو أمر وعيد وتهديد وخذلان. قال جار الله : قوله (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) إما أن يكون تعليلا لقل على سبيل التسلية كأنه قيل : تسل عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء الذي قرأوا الكتب من قبل نزول القرآن. قال مجاهد : هم أناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد صلىاللهعليهوسلم خروا وسجدوا منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام. وفي قوله : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) دون أن يقول «يسجدون» مبالغة من وجهين : أحدهما أنه قيد الخرور وهو السقوط بالذقن. فقال الزجاج : لأن الذقن مجتمع اللحيين ، وكما يبتدىء الإنسان بالخرور للسجود فأول ما يحاذي به الأرض من وجهه الذقن. قلت : هذا تصحيح للمعنى ولا يظهر منه لتغيير العبارة فائدة. وقال غيره : المراد تعفير اللحية في التراب فإن ذلك غاية الخضوع وإن الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض مغشيا عليه. وثانيهما أنه لم يقل «يخرون على الأذقان» كما هو ظاهر وإنما قال (لِلْأَذْقانِ) لأن اللام للاختصاص فكأنهم خصوا أذقانهم بالخرور ، أو خصوا الخرور بأذقانهم. ثم حكى أنهم في سجودهم أنهم يراعون شرائط التنزيه والتعظيم قائلين (سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا) بإنزال القرآن وبعثة محمد صلىاللهعليهوسلم في كتبنا (لَمَفْعُولاً) أي منجرا «وإن» مخففة من الثقيلة ولهذا دخلت اللام في خبر كان ، ثم ذكر أنهم كما خروا لأذقانهم في حال كونهم ساجدين فقد خروا لها حال كونهم باكين ، ويجوز أن يكون التكرير لأجل الدلالة على تكرير الفعل منهم بدليل قوله (وَيَزِيدُهُمْ) أي القرآن (خُشُوعاً) لين قلب ورطوبة عين ، ثم أراد أن يعلمهم كيفية الخشوع والدعاء فقال : (قُلِ ادْعُوا) عن ابن عباس : سمعه أبو جهل يقول : يا الله يا رحمن. فقال : إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر. وقيل : أن أهل الكتاب قالوا : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت. قال جار الله : الدعاء بمعنى التسمية لا النداء وهو يتعدى إلى مفعولين. تقول : دعوته زيدا ثم تترك أحدهما استغناء عنه فتقول : دعوت زيدا و «أو» للتخيير والمعنى على السبب الأول سموه