إذا تأمل فأنصف (أَوْ يَخْشى) فيقل : إنكاره وإصراره. قالت المعتزلة : جدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن قطع المعذّرة وإلزامه الحجة. وقالت الأشاعرة : العقول قاصرة عن معرفة سر القدر ولا سبيل إلا التسليم وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان. قالوا : إنه كمن يدفع سكينا إلى من علم قطعا أنه يمزق بطن نفسه ثم يقول : إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان. ويروى عن كعب أنه قال : والذي يحلف به كعب إنه مكتوب في التوراة «(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) وسأفسي قلبه فلا يؤمن» (قالا رَبَّنا) فيه دليل على أن هارون أيضا كان حاضرا وقتئذ كما روينا. وسئل أن انشرح صدره وتيسر أمره فكيف قالا (إِنَّنا نَخافُ) فإن حصول الخوف ينافي شرح الصدر؟ وأجيب بأن المراد من شرح الصدر ضبط الأوامر والنواهي وحفظ الشرائع والأحكام بحيث لا يتطرق إليها خلل وتحريف ، وهذا شيء آخر مغاير لزوال الخوف. قلت : لعلهما خافا أن لا يتمكنا من أداء الرسالة بدليل قوله (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أي يسبق رسالتنا ويبادرنا بالعقوبة (أَوْ أَنْ يَطْغى) أي يجاوز الحد بأن يقول فيك ما لا ينبغي أو يجاوز حد الاعتدال في معاقبتنا إن لم يعاجل بنا فلا نتمكن من إقامة وظائف الأداء. وأيضا الدليل النقلي السمعي إذا انضاف إلى الدليل العقلي زاده إيقانا وطمأنينة ولهذا (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما) أي بالنصرة والتأييد (أَسْمَعُ وَأَرى) ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل فأفعل بكما ما يوجب عنايتي وحراستي ، فلا يذهب وهمكما إلى أن مواد كرامتي انقطعت عنكما إذا فارقتما مقام المكالمة فصار هذا الوهم سبب خوفكما. ويجوز أن يكون الفعلان متروكي المفعول كأنه قيل : أنا سامع مبصر وإذا كان الحافظ والناصر كذلك تم الحفظ وكملت النصرة. قال بعض الأصوليين : في الآية دلالة على أن الأمر لا يقتضي الفور وإلا كان تعللهما بالخوف معصية وإنها غير جائزة على الرسل في الأصح. وقال بعض المتكلمين : فيها دليل على أن السمع والبصر صفتان زائدتان عن العلم والإلزام التكرار فإن معيته هي بالعلم. ولقائل أن يقول : الخاص يغاير العام ولكن لا يباينه.
ثم كرر الأمر قائلا : (فَأْتِياهُ فَقُولا) فسئل إنهما أمرا بأن يقولا له قولا لينا فكيف غلظاه أوّلا بقوله (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) ففيه إيجاب انقياده لهما وإكراهه على طاعتهما وهذا مما يعظم على الجبار. وثانيا بقوله (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) وفيه إدخال النقص في ملكه لأنه كان يستخدمهم في الأعمال الشاقة. وثالثا بقوله (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) وفيه منعه عما يريده بهم؟ وأجيب بأن هذا القدر من التغليظ ضروري في أداء الرسالة. قيل : أليس الأولى أن يقولا (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ)