فيكون ذكر المعجز مقرونا بادعاء الرسالة. والجواب أن قوله (فَأَرْسِلْ) من تتمة الدعوى ، وإنما وحد قوله (بِآيَةٍ) ومعه آيتان بل آيات لقوله (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) لأنه أراد الجنس كأنه قيل : قد جئناك ببيان من عند الله وبرهان. قال في الكشاف : قلت : وفيه أيضا نوع من الأدب كما لو قلت : أنا رجل قد حصلت شيئا من العلم ولعل عندك علوما جمة على أن تخصيص عدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد عليه. وأيضا الأصل في معجزات موسى كان هي العصا ولهذا وقعت في معرض المعارضة كما أن الأصل في معجزات نبينا صلىاللهعليهوسلم كان هو القرآن فوقع لذلك في حيز التحدي (وَالسَّلامُ) أي جنس السلامة أو سلام خزنة الجنة (عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) يحتمل أن يكون هذا أيضا مما أمر بأن يقولاه لفرعون ، ويحتمل أن تكون الرسالة قد تمت عند قوله (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) ويكون هذا وعدا بالسلامة من عقوبات الدارين لمن آمن وصدق. قالت الأشاعرة : في قوله (أَنَّ الْعَذابَ) أي جنسه أو كل فرد منه (عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) دليل على أنه لا يعاقب أحدا من المؤمنين ترك العمل به في بعض الأوقات ، فوجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام على أن العقاب المتناهي لا نسبة له إلى النعيم المقيم الذي لا نهاية له فكأنه لم يعاقب أصلا. وأيضا العارف بالله قد اتبع الهدى فوجب أن يكون من أهل السلامة (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) خاطب الاثنين ووجه النداء إلى موسى لأنه الأصل في ادعاء الرسالة وهارون وزيره ، ويجوز أنه خص موسى عليهالسلام بالنداء لما عرف من فصاحة هارون والرتة التي كانت في لسان موسى. فأراد أن يعجز عن الجواب. قال أهل الأدب : إن فرعون كان شديد البطش جبارا ومع ذلك لم يبدأ بالسفاهة والشغب بل شرع في المناظرة وطلب الحجة ، فدل على أن الشغب من غير حجة شيء ما كان يرتضيه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم؟! وفي اشتغال موسى بإقامة الدلالة على المطلوب دليل على فساد التقليد وفساد قول القائل بأن معرفة الله تستفاد من قول الرسول ، وفيه جواز حكاية كلام المبطل مقرونا بالجواب لئلا يبقى الشك. وفيه أن المحق يجب عليه استماع شبهة المبطل حتى يمكنه الاشتغال بحلها. واعلم أن العلماء اختلفوا في كفر فرعون فقيل : كان عارفا بالله إلا أنه كان معاندا بدليل قوله (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الاسراء : ١٠٢] وقوله (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤] وقوله في سورة القصص (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) [الآية : ٣٩] وليس فيه إلا إنكار المعاد دون إنكار المبدأ. وقوله في الشعراء (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) إلى قوله (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧]